يشكّل الوعاء التاريخي رافدا مهمّا للكتابات الأدبية التي تستلهم منه أحداثا وتعيد صياغتها وفق منظور إبداعي يجمع بين قوة الكلمة ورصانة الأسلوب، ويتتبع تطور الأحداث التاريخية وفق نوع أدبي هام مثل الرواية، ليجعل منه جانبا مهما للتجسيد الواقعي.
إنّ تجريب التاريخ في الرّواية قد مرّ بمراحل وكانت له أهميته نعتقد أنّه اكتسبها من التجريب في حد ذاته، الذي تكمن أهميته في «خصوصية طرحه، ونضاله من أجل اكتساب حقِّه في الاحتجاج على الوعي الجمالي السائد وما يتضمنه هذا من جدل يقوم على نقض الوعي الاجتماعي بعد استيعابه في مستوياته المتشابكة، سياسية واجتماعية، اقتصادية، دينية، ثقافية وفنية مثلما تكمن أهميته في لحظته الآنية وما يطرحه منها أو يطرحه عليها.
وهكذا يظهر التّجريب من طرح إلى طرح مبتدئا بخلق ما يعينه على طرحه الجمالي الخاص والمشبع بتربته وأصالته لتحقيق رؤية التغيير في العمق التي يطمح إليها غالباً، ومن ثمّ جعْل الرواية تنتمي على مستوى الكتابة إلى زمن حداثي كوني يحرر فيه المتخيل الزمن من مكانه ويجعله أكثر اتساعا، بل وأكثر عمقا في التاريخ.
الرّواية وتمثيل التّاريخ
يقول النّاقد الأدبي عبد اللطيف محفوظ يمكن أن يقبل الخطاب التاريخي الخضوع للتقييم الحقائقي بينما يقبل الخطاب الروائي التقييم الأيديولوجي، وذلك بسبب خضوع الأول لثنائية البث الحقائقي (الصدق والكذب) قياسا إلى ما يفترض إّنه واقعي، وعدم خضوع الثاني لهذه الثنائية بالضرورة.
ومن أجل إظهار هذه العلاقات قام عبد اللطيف محفوظ بوصف التشابهات القائمة بين أنواع الكتابة التاريخية التي حدّدها هيجل في كتابه (العقل في التاريخ) وبين أنواع الكتابة الروائية السائدة، وذلك حين قال: «لقد فصل هيجل التاريخ في كتابه المذكور إلى ثلاثة أنواع كبرى هي: التاريخ الأصلي ويقصد به التاريخ الذي يكتبه المؤرخ، وهو يعيش أصل الأحداث ومنبعها ويماثل هذا النوع الرواية الواقعية والرواية الطبيعية اللّتين تتمسّكان بمحاولة وصف الجدل المعتمل بين القوى الفاعلة داخل الواقع المدرك، والتي تتصارع بهدف تغييره أو تثبيته.
وإذا كان هيجل قد أشار إلى أنّ هؤلاء المؤرخين وهم يدونون ما حولهم، إنما ينقلون ما يظهر لهم إلى عالم التمثل العقلي، فإنّ الروائيين الواقعيين أيضا وهم يحاولون نقل الواقع إنما ينقلون الظاهر الواقعي (أي الشيء الذي يستطيع المدرك إدراكه من الدليل الحاضر في الوعي، في حدود معرفته به وحدود وضوحه في وعيه).