قراءة وتحليل في ومضة (براءة) للأستاذ مازن علي ناجي

مات عطشا؛ شرب الصمت دموعه

هشام احمد غالي

لا تزال الومضة القصصية، تعبر ممرات ضيّقة كثيرة؛ شأن أي جنس أدبي حديث التكوين، له ما له من ارتباطات عضوية؛ بأجناس أخرى عاصرته؛ أو سبقته وتطور عنها، وأقصد مزامنته ونشأته مع القص القصير جدا، والومضة الشعرية، وتطوره عن الأولى وافتراقه عنها، كما يتشاكل كأديب مقارن مع أدب التوقيعات العربية القديم، لكن الومضة وغيرها من أجناس الإبداع البلاغي، قد عولج كثيرا ولا زال؛ حتى في تراثنا العربي، من زاوية التشكيل والبناء الذي يهدف إلى توسيع الفضاء الإبداعي المقروء وراء الهيكل النصي الضيق. لقد أخبر الجاحظ: أن القيمة التأثيرية للألفاظ المتاحة من الطيف اللغوي، في أي صياغة متداولة؛ تحمل الناتج الصفري من المعنى، طالما لم تخضع لوسائل الترحيب والتوسيع، قاصدا المجاز والمحسنات وغيرها، وكذلك أخبر سيبويه عن الانزياح، الذي عرف بمصطلحات أخرى: كالخرق والاختيار والعدول.
وفي النص الومضي، يلعب التكثيف لعبته معتمدا على وسائل الإنزياح اللفظي الذي يولّد انزياحا دلاليا، كما يلعب الإيحاء على تنويعات فرضها النص البصري المقروء؛ بالتضمين والرمز والمجاز، وقد لا ننتبه أن النص المحمل بالإيحاء والايماءات؛ هي من تقصد الكاتب، في جعل نصه ذي قدرة توليدية؛ تقابل الطاقة التفسيرية للمتلقي، الذي دعي إلى دائرة الإبداع وصار أحد عناصرها؛ كما يقول أمبرتو إيكو.
إذن، فعلى الكاتب يحمل بناءه اللفظي استعدادات تجعله قابلا للطيران بأجنحة المتلقي، في النسق اللغوي والفكري الذي ألقاه في كلمات كجسد مسجى، ينتظر أن تهبط عليه الروح. سأبدأ في قراءة متن الومضة معتبرا أن العنونة ليست كما يعرف بأنها العتبة التي ندلف منها إلى النص، وإلا لكان المتن هو فقط تعريف لها، وليس انطباع الكاتب والمتلقي كذلك، عن هذا النص في آخر تحليل.
الموت هنا قد يكون مجازيا وقد يكون حقيقيا، وفي الحالين هو موت منوط بالعطش، والعطش هنا تمييز يتضمن التلميح إلى حدثية القتل، ولأنه كان عطشا فقد تلبس دور القاتل هنا؛ بأقسى صورة تأشيرا إلى النية الجرمية التي تنطوي على الاستغراق زمنا لإنفاذ هذا الموت من جهة، وللدرامية المقصودة في منع الماء المبذول لكل الكائنات إلا لهذا القتيل. شرب الصمت دموعه: هذا التقابل بين العطش والشرق؛ تتبعه منطقيا المفارقة الناجمة عن ارتواء الصمت، لتشكيل طباق يخد لعبة الإيحاء، فارتواء الصمت بالدموع طويل طويل، طول الموت من العطش، طول عهد الإنكفاء بالصبر واعتزال المدد، وهنا تتكشف  دالات تحيلك إلى دلالة قد أجلناها: وهي البراءة. البراءة لغة هي السذاجة والفطرة ونقاء الطوية، ولكنها أيضا هي العزوف والخلو الابتعاد، فأي المعنيين اخترتَ، سيجبرك على قراءة انزياحات العطش والارتواء: في كائن اعتزل الدنيا بغفلة الطفل المنبوذ عن حقّه في الطّلب؛ أو بإرادة البالغ القاصد البراء، بعد أن نفض يديه من الدنيا. موضوع بالغ الترميز عديدُه، يلبّي ما تتشوّق إليه أنساق الشّعر والقص في اجتراح الفكر، من زوايا لا تخطر إلا بخاطر المبدعين!

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024
العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024
العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024