غاص الدكتور أمين الزاوي في قضايا الثقافة وهمومها وانشغالات أهلها وصراعاتهم من أجل بناء مشروع مجتمع تحتل فيه الأنتليجانسيا الحلقة المركزية، وتقوده إلى برّ النجاة في محيط حبلى بالاهتزازات والغليان والحراك لم يستقر بعد تغييب الثقافة والنظرة الحارقة التي ترى في المثقف المعارض خصم لابدّ أن يشطب من المعادلة الوطنية ويبعد من معركة البناء المفتوحة على كل الرهانات.
توقف د. أمين الزاوي، الذي كان “ضيف الشعب”، أمس، عند أكبر المحطات والمسارات، مثيرا الإشكالية الحادة، أين موقع المثقف في تحولات الجزائر، وإصلاحاتها وبناء أسس مؤسسات.. توقف عند إشكالية مكانة المثقف في المجتمع السياسي التعددي الذي رافع من أجله في كتاباته رواياته، وجادل أهل الثقافة والسياسية بشأنه من أعلى المنابر والفضائيات.
وقال برؤية تحليلية بعيدة، كسّر بها الحواجز والممنوعات، داعيا إلى التحرر من »الغيطو« لمقارعة الواقعة المتغير بأسرع ما يمكن: »إن الحوار الهادئ وحده الحلّ والبديل في سدّ الفجوات والشروخ والخروج من وضع غير طبيعي«. وهو الحوار الذي ساد في السبعينيات، حيث فتح المجال لنقاش موسّع احترم فيه الرأي والرأي الآخر في ملف الازدواجية، وعولجت التناقضات من كل زاوية ومنبر.. وخاض هذه المعركة الفكرية الدكتور عبد اللّه شريط وآخرون أمثال مصطفى الأشرف..
وأعطى الدكتور أمين الزاوي مقاربة في الحديث عن الشأن الثقافي، معيدا بنا إلى سنة 1968 انتفاضة الطبقة المثقفة بفرنسا وسعيها لإشغال فتيل ثورة. وقال في هذا المقام إن ديغول في تلك الأحداث، أمر بعدم سجن أقطاب الفكر والثقافة. وقال في تعليمات صارمة »سارتر لا يمكن أن يسجن.. وفولتير لا يمكن أن يسجن«، والسجن عنده ليس الزّجّ بالشخص في غياهب المؤسسة العقابية، بل بالقضاء الواسع، وتركه حرا طليقا للإبداع والفكر.
أين موقعنا نحن من هذه المقاربة؟
حسب الدكتور الزاوي، إن الجزائريين يعملون المستحيل من أجل الحفاظ على قاعدة الاستثناء والدفاع عنها إلى أبعد الحدود. فليس غريبا أن لا نجد مكانة للمثقف في الأحزاب. ولا نعثر للثقافة في برامجها السياسية.. وكأن هذه التشكيلات تخشى هذا الأمر، وتعمل ما في المقدرة من أجل محاصرة أهل الثقافة وإبعادهم عنها، رغم أهميتهم في مرافقتها ومدّها بعناصر القوّة للانطلاق، واحتلال المواقع، وتثبيت الذات في المشهد السياسي المتحول.
أعطى الدكتور الزاوي رؤية أخرى مغايرة للوضع الستاتيكي قائلا: إن المثقف هو »دينامو« الحزب وقوته الدافعة إلى الأمام. هو الذي يوفر لها الحصانة والمناعة في مواجهة الطارئ، والتحضير للآت عبر نظرة استقرائية افتراضية لا تتوقف عن الزمان والمكان الجامدين، ولا تبقى حبيسة الثقة المطلقة.
وينتقد الأحزاب من الداخل، ويعرض اقتراحات البناء والتقويم، هو المثقف وليس مجرد العضو السياسي المنخرط الجاري وراء مكاسب وحسابات حزبية ضيّقة.
المثقف وحده يتعالى عن هذا الوضع، وينفرد بالسلوك ويشكل الوعاء الإيديولوجي التنظيمي للحزب، واعتماده عليه يصلح بناء المعادلة السياسية، ويمنحها استماتة واستقرارا في مواجهة التحديات ويساعدها على تخطي الطوارئ.
من أجل كل هذا، لابد من مراجعة الحسابات.. وتصحيح الخلل والفجوة، وتظهر كيف يجب إدراج المثقف في صدارة الأولويات. ولماذا تسند له مهمة المشاركة في القرار، وحتى يؤخذ برأيه في البناء الوطني في كل الظروف.