لطالما تبادر إلى أسماعنا الدفاع المستميت لمحبي الثّقافة عن القراءة والمقروئية في الجزائر، إلاّ أنّ أغلب الدّراسات العلمية تبرهن على تفوّق الصورة في التأثير مقارنة بالكلمة المكتوبة، وهو ما يعطي السينما أهميتها في التّنشئة والإقناع والدعاية، وحتى في التربية والتكوين. بالمقابل، تجتمع عوامل اقتصادية واجتماعية، وتكنولوجية وهيكلية، لتدعّم العزوف الذي تشهده قاعات العرض، على قلّتها.
كثيرة هي النظريات والمقاربات العلمية، سواء في ميدان علوم التربية، أو علم النفس أو علم الاتصال، التي تصدّت إلى دراسة تأثير الصورة، وإن كانت أكثر تأثيرا على العقل الباطن، وأكثر رسوخا في ذاكرة الإنسان أكثر من الكلمة المقروءة، ومن بين هذه المقاربات نذكر تأثير الأفضلية بالصور.
نقصد بـ “تأثير الأفضلية للصور Pictorial superiority effect” ما مفاده أن سهولة تذكر المفاهيم التي يتم تلقيها عن طريق الصور، تزداد عن تلك التي يتم تلقيها بواسطة الكلمات المكتوبة.
طبقا لنظرية “التلقي المزدوجDual coding theory “ لصاحبها ألان بايفيو Allan Paivio من جامعة أونتاريو، فإن هناك ذاكرة لفظية أو “تخيلية” أو الاثنتين معا، وعند تقديم المفاهيم المادية كصور، يتم تشفيرها في النظامين معا، بينما يتمّ تسجيل المفاهيم المجردة لفظيا فقط.وهو ما يذهب إليه نلسون Nelson،
الذي يقول في “النظرية السّينمائية الحسية” بأنّ الصور تتمتّع بميزتين تشفيريتين عن الكلمات، حيث تتّسم بالتمايز الإدراكي بين بعضها البعض أكثر من الكلمات، ممّا يزيد من فرصة استرجاعها. كما يعتقد أيضًا أن الصور ترتبط بالمعنى بشكل مباشر أكثر من الكلمات.
إذن فإنّ للصور تأثيرا على الذاكرة متفوّقا عن تأثير الكلمات (المكتوبة)، كما يوجد التأثير المتفوق للصور في الذاكرة المكانية حيث يتم تذكّر مواقع العناصر والصور الفوتوغرافية بشكل أفضل من مواقع الكلمات.
هذه المعطيات التي تزوّدنا بها هذه المقاربات تظهر جليا كيف أن للصورة أثرا أكبر من أثر القراءة، سواء على الذاكرة أو قدرة الاستيعاب اللحظي، وهو ما يبين أهمية (أو خطورة، حسب زاوية الرؤية) الصورة بمختلف أشكالها، الثابتة أو المتحركة، بما في ذلك السينما.
بالمقابل، فقد تكاثفت مجموعة من العوامل من أجل التأثير على نسبة الإقبال على قاعات السينما، تنوّعت بين العوامل السوسيوثقافية، التكنولوجية، الاقتصادية والهيكلية. فعلى المستوى التقني البحت، يمكن أن نذكر تأثير عاملين أساسيين، هما الأنترنيت والتلفزيون، خاصة وأنّهما يوفّران حلولا لمحبي الأفلام السينمائية، تغني عن التنقل إلى القاعات والارتباط بتوقيت معين.
وفي هذا السّياق، قالت الباحثة سوزان نيومان Susan B.Neuman في مقال صادر سنة 1988، إن كثيرا من الدراسات اهتمت بتأثير التلفزة على العادات الأخرى، سواء الدراسة أو حتى الترفيه مثل الذهاب إلى السينما، وقالت إن بإمكان التلفزيون أن يؤثر سلبيا على العادات الأخرى، وإن لم تستطع هذه الدراسات إثبات وجود علاقة سببية مباشرة بين هذه المتغيرات والتفلزيون.
وعلى المستوى الاقتصادي، فإن هاتين الأداتين (الأنترنيت والتلفاز)، يوفّران إحساسا بـ “مجانية الخدمة”، فحتى وإن كان المستفيد من خدمات الأنترنيت أو التلفاز يدفع مقابلا ماديا، إلا أن الدفع لا يكون مرتبطا مباشرة بالسلعة (الفيلم في هذه الحالة)، ما يخلق إحساسا بمجانية الخدمة، وهو ما لا يتوفّر في قاعة السينما التي يكون الدفع فيها آنيا.
من جهة أخرى، فإنّ تحميل الفيلم (بغض النظر عن مسألة حقوق التأليف)، أو شراءه في شكل قرص دي في دي مثلا، يخلق إحساسا بـ “التملّك”، أي أن الفيلم صار ملكا للمشتري، يشاهده كلما وأينما أراد، وبالوتيرة التي أراد، وهو ما لا توفره العروض السينمائية. وبالنسبة للفرد الجزائري، فإنّ الدخول إلى قاعة السينما يكلف أحيانا 200 دينار، أي ما يعادل قرصي دي في دي أو أكثر، يحتوي كل واحد منها على 6 أفلام، والمقارنة هنا لا تحتاج إلى شرح.
أما على المستوى السوسيوثقافي، فإنّ القطيعة مع قاعات العرض بمختلف أشكالها، التي بدأت مع العشرية السوداء، إضافة إلى صورة نمطية، صحيحة أو خاطئة، لصقت بقاعات السينما تتعلّق ببعض الممارسات المنافية لأخلاق وأعراف المجتمع الجزائري، ما جعل محبّي السينما يعزفون عن ولوج قاعات العرض.
أما على المستوى الهيكلي، فإنّ عدد القاعات في الجزائر قد تقلّص بشكل مخيف، والقاعات المتبقية تبقى مركزة في المدن الكبرى، ورغم أنّ بعض الجمعيات والنوادي السينمائية تحاول تغطية هذا العجز، فهذا المجهود، وإن كان هؤلاء يشكرون عليه، يبقى غير كافٍ.
إن أقل ما يقال عن وضع السينما في الجزائر هو أنه جدلي، فمن جهة نجد جمهور يحبّ السينما إلى حد كبير، ومن جهة أخرى لا تنجح المرافق الموجودة، على قلّتها، في استقطاب هذا الجمهور، لأسباب حاولنا تلخيصها في هذا المقال، ولكن تبقى الدراسة العلمية والموضوعية لهذه الظّاهرة “المليئة بالتّناقض” ملحّة إلى حدّ كبير.