حوار داخلي وظّفته الرواية وكرّسه المسرح

المونولوغ.. المصطلح والخصائص الدرامية

أسامة إفراح

 كلّ من يسمع كلمة مونولوغ يستحضر مباشرة صورة الفنان الواقف وحيدا على ركح المسرح، مخاطبا نفسه ومن خلالها جمهوره.. ولكننا ننسى، لسبب أو لآخر، أننا جميعنا نقوم بمونولوغ واحد أو أكثر في حياتنا اليومية، حينما نحاور أنفسنا ونفكر “بصوت عال”.. ولتفادي كل خلط في المصطلحات، ارتأينا أن نتتبع أصله ونشأته، ووظائفه وخصائصه، ما قد يساعدنا على فهم هذه المقاربة البسيكولوجية التي تبناها الأدب والمسرح.. فماذا نقصد بـ”المونولوغ”؟

اشتقت كلمة مونولوغ من تركيب الكلمتين الإغريقيتين “مونو” بمعنى “واحد”، و«لوغوس” بمعنى “خطاب”ـ ونعبر بهذا المصطلح عن جملة أو أكثر موجهة إلى الذات بصوت عال، ناقلة لأفكار المتحدث بالصيغة المباشرة. ينتمي المونولوغ فقط إلى عالم الكتابة الروائية (أو ما يطلق عليها البعض الخيالية)، ويجب التمييز بينه وبين الكتابة الأوتوبيوغرافية بصيغة المتكلم، التي تفترض وجود فارق زمني ولو بسيط، بين السارد والمسرود.
وإذا كان المونولوغ قد لصق بالفنون المسرحية، فإن ميلاده لم يكن في الفن الرابع وإنما في الرواية، حيث ساعد الروائيين على وصف مسارات بسيكولوجية معقدة.
ويجدر بنا الإشارة إلى الخلط الحاصل بين أنواع مسرحية ثلاثة: المونولوغ، المونودراما، والوان مان شو.. وكان أن تطرق المسرحي الجزائري عمر فطموش لهذا الموضوع، حيث أكد على وجوب التمييز بين هذه “التخصصات الثلاثة، التي لا يمكن أن ينظر إليها بنفس الطريقة، مادامت المونودراما هو العمل المسرحي في حد ذاته (بما في ذلك الكتابة الدرامية والإخراج وأداء الممثل وأحيانا الكوريغرافيا). أما المونولوغ فهو الأداء الفردي في مسرحية، في حين يقوم الوان مان شو على الضحك والسخرية.. لذلك، فإن التخصصات الثلاثة لا يمكن أن يحكم عليها أو يتم إنتاجها بنفس الطريقة”. ويصر فطموش على أن المونولوغ يتطلب من الفنان تحكما كبيرا ورأسمال معتبرا من التجربة في المجال.
المونولوغ في المسرح الكلاسيكي
حينما نتطرّق إلى المونولوغ في المسرح الكلاسيكي، فإننا في الغالب نعني شخصية تقف وحدها على خشبة المسرح وتحدث نفسها بصوت عال. ثم غالبا ما تقع فريسة من اضطراب عنيف وتوترات رهيبة.
ويمكن أن تكون أمام خيار صعب. يمكن للمونولوغ حينها أن يأخذ شكل حوار مع الذات (الشخصية تزدوج)؛ ما يخلق حوارا داخليا. ولكن يمكن للمونولوغ أيضا

أن يتخذ شكل حوار مع متلقين غائبين. (المتلقي هو من يوجه له الكلام).
وظائفه
- وظيفة التداول Délibération: في مواجهة معضلة، تأخذ الشخصية الوقت للنظر في الحلول الممكنة، مزاياها وعيوبها، مع إظهار الشخصية استياءها حين اتخاذ القرار، أو على العكس تتخذ قرارا، أو أكثر من ذلك تحاول العودة إلى قرار سابق للمونولوغ. وكمثال على ذلك نجد شخصية هيرميون في أندروماك (من التراث الإغريقي).
- وظيفة التأمل Introspection: يتعلق الأمر هنا بمونولوغات أكثر غنائية، التي تعبر فيها الشخصية عن شعور عنيف بشكل عام، دون الحاجة إلى اتخاذ قرار. وغالبا ما تكون هذه المونولوغات مبنية أقلّ (في الجانب الظاهري على الأقل) وتظهر اضطراب ذهن الشخصية التي تصل في بعض الأحيان إلى الحدود بين العقل والجنون. مثال: فيدروس في مونولوغ فيدروس للفرنسي راسين (المستقاة من أعمال الإغريقي أوريبيدوس والروماني سينيكا).
- الوظيفة الدرامية Dramaturgique: قد تتوقف تتمة الحركة في المسرحية على القرار النهائي للمونولوغ. فإضافة للاضطراب الداخلي للشخصية، يجب على هذه الأخيرة التأكيد على أهمية قرارها في المسار العام للمسرحية. مثال: آرنولف Arnolphe في “مدرسة النساء” للفرنسي موليير.
خصائصه
- المتلقي: تخاطب الشخصية نفسها في أغلب الأحيان، كما لو أنها تفكر بصوت عال. ومع ذلك، قد تميل إلى مخاطبة شخصية أخرى خيالية أو غائبة عن المشهد، بل وقد تذهب الشخصية في لحظة من الجنون والفلتان، إلى الاعتقاد بوجود هذا الغائب وشتمه ولعنه. كما يمكن أيضا أن تتوجه بالخطاب إلى الجمهور. وكمثال نذكر: المونولوغ الشهير لـ«أرباغون” Harpagon في “البخيل” لموليير.
نفتح هنا قوسا للحديث في عجالة عن هذا العمل من القرن السابع عشر، إذ يعتبر “البخيل” من أقوى الأعمال وأكثرها شهرة في هذا المجال، مع ما يحمله من اضطراب واضح للعيان، ولكن أيضا حسّ دعابة وملحة، حيث يشخصن البخيل المال الذي يكنزه، ويدعوه بـ: “صديقي العزيز”، و«لا أستطيع أن أحيا بدونك”، والتناقض الصريح، مثل الطباق في قوله “مالي المسكين” (الترجمة الحرفية “مالي الفقير” Mon pauvre argent).
- علامات الاضطراب الداخلي: علامات الوقف قوية كثير من الأحيان قوية ومتوافرة، هيكل نحوي مخلخل غالبا، إيقاع متقطع طوعا، أهمية المجالات النحوية الوجدانية، الدور الأساسي لعلامات النطق.
- من كل ما سبق ذكره، يمكننا الاستنتاج بأنه مادام الأمر يتعلق بإظهار اضطرابات الروح، فإننا نجد المونولوغات أساسا في الأعمال التراجيدية. ونلاحظ القوة الحقيقية الشعرية لهذه المقاطع التي تكشف عن عذاب شخصية ما، ولكن أيضا قوة الإقناع التي يجب أن يمتلكها الممثل الذي يتقمص هذا الدور.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024