الجـــمـــع بـــين القــــراءتـــين عـــنـــد حـــاج حـــمــــد..

جـــدلـــيـــة الغـــيـــب والإنـــــــســــان والطـــبـــيـــعــــــــــة..

محمد كاديك

ينتقل المفكر السّوداني، أبو القاسم حاج حمد، بالقراءة إلى مستوى أعلى من التفسير التقليدي، فهو يمثّل منهجا متكاملا يجمع بين قراءتين في جدلية «الغيب والإنسان والطبيعة»، فيمنح مفهوم القراءة نفَسًا جديدا يجعل المعنى متساوقا مع الحياة اليومية للمتلقّي، ويتيح له أن يعيشه، ونعترف أن صاحب «العالمية الإسلامية الثانية» مازال يبهرنا بقراءته المتميّزة وحضوره القويّ، كما يبهرنا بإلمامه العجيب بالمناهج الفكرية، وعلاقته الوطيدة بالقرآن الكريم.

 

إن رهان القراءة الذي رفعه أبو القاسم حاج حمد مضى به إلى رسم معالم «القراءة المنهجية المعرفية المعاصرة للقرآن الكريم»، وهو رهان صعب يقتضي البحث عن كيفية استجابة القرآن لهذا النمط من القراءة، بالنظر إلى أنه تنزّل ضمن نهايات الطور الإحيائي وبدايات الطور الثنائي من تطوّر العقل البشري، كما يقتضي البحث عن كيفية الاستجابة بالنّظر إلى تنزله ضمن بيئة تاريخية مقيّدة إلى أسباب النزول ومحددات الثقافة والمجتمع، ومرتبطة بدلالات مفهومية لمفردات اللغة على الطريقة التي استخدمها اللسان العربي، وقعّدها علم اللّغة في عصر التدوين، ومن هنا يتبين أن أبا القاسم نظر في القرآن من زاوية أنه «يقدم نفسه أمام تجربة الحضارة العالمية الراهنة، بأكبر مما يتعلّق ببناء اللّفظ والنّظم والأسلوب، فالعرب نظروا في القرآن في إطار بنائه اللّفظي، وفي حدود ما أعطتهم عقليتهم في فهم المعنى الذي كان أعمق بكثير من تجربتهم الفكرية»، غير أن القرآن في الطور المعرفي الجديد «يتقدم إلى البشرية في إطار منهجي كامل يجمع بين المعنى القرآني، المنهج والخصائص العالمية المعاصرة، فتتشكل العقلية التي تسمح للإنسان بالتفاعل مع عصره، ومواجهة معطياته بمنهجية قرآنية معرفية».

 

المنظور الحضاري العالمي

 

تأتي رؤية حاج حمد هاته من منطلق أن «الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن حاملا في مبناه ومعناه وحدة منهجية كاملة ووعيا معادلا للكون، وأن عناصر استمرارية القرآن وحفظه ليست في نصوصه فقط، ولكن في فهم النصوص ضمن المنهج القرآني ذاته، وجهد الإنسان المطلوب إنما هو في اكتشاف هذا المنهج عبر تدبر عميق وتفاعل شامل مع القرآن الكريم».

وحتى لا تختلط علينا الأمور بما قدمنا من حديث عن الأطوار المعرفية والتفاعل مع العصر، ينبغي أن نوضّح أن حاج حمد اعتمد في أسلوبه «تحليل القرآن» في نهجه ضمن معطيات عقليّة جديدة عوضا عن «تفسيره»، محاولا «الاكتشاف» بوعي مفهومي تاريخي مغاير، دون أن يقصد إلى «العصرنة»، لأن القرآن وهو يكشف عن متغيّرات عصوريّة، يظلّ دائما متعاليا على كل عصر ومهيمنا عليه بوعي متقدم، وبالتالي، فإن صاحب «العالمية» يستعيض عن «التفسير» بـ»التحليل»، بمعنى أنه يعتمد على «التّبيين المنهجي» في إطار الوحدة القرآنية بطرح «الجزء» في إطار «الكل»، عوضا عن التفسير التقليدي للكتاب في أجزائه.

إن القراءة التجزيئية للقرآن باعدت بين المسلم والمنهج، ووضعته وراء قضبان عصر التدوين بإنتاج استلابات دينية (كهنوتية)، تشكّلت كمنظومة عقلية وسلوكية، وصارت تمثل عائقا أمام الوعي بالقرآن، حتى أن «المذاهب الوضعية، مع جزئيتها وقصورها، أصبحت تبدو أقرب إلى الإنسان المعاصر من منظومة هذه المفاهيم التي تستلب الإنسان بالعبودية ومعنى الطاعة، وتفريغ شحنات وعيه ونزوعه العلمي، ثم تجريده عن ممارسة أي شكل من أشكال تقرير سيادته بمنطق الحاكمية الإلهية، مع دونية الآخر الذميّ، وتدنيس المرأة، واستلاب الفعل الحضاري وقوة العمل، وإعطاء معنى تحقيري للحياة، ودمغها بأزلية التفاوت الاجتماعي والانقسام الديني، إضافة إلى الاصطفاء العرقي».

وقد يكون من الملائم الآن أن نضرب مثلا عن الانتقال الذي عرفته قراءة القرآن الكريم بعد التخلص من هيمنة التجزيء، ونبدأ بالمفهوم الذي قدمه حاج حمد لـ»الصلاة الوسطى» في قوله سبحانه وتعالى: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ  الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين»، فقد اختلف الناس في معناها، وأتوا بكثير من الأخبار والتأويلات لانتخاب إحدى الصلوات كي تكون الوسطى، من منطلق أن الله أفردها بالذكر، وقد دخلت من قبلُ في عموم الصلاة، تشريفا لها، وهو ما يعني أنها الفضلى بين الصلوات، فتعدّدت الترجيحات، إلا أن الرأي لم يستقم لأية صلاة على حساب الأخرى، وقد أجمع الناس - في أيامنا هاته - أنها صلاة العصر، كما هو سائد بالجزائر، ولدينا وصية يتناقلها الناس أبا عن جدّ بخصوص الصلاة تقول: «لا تبك أباك إذا مات، وابك عصر الجمعة إذا فات» يقصدون إذا فاتك وقته ولم تؤده. (ما تبكيش على باباك إذا مات، وابك على عصر الجمعة إذا فات)، غير أنّ عددا من المفسرين اختاروا أيسر الحلول بالقول إن الله خبأها في الصلوات كما خبأ ليلة القدر في رمضان، وساعة يوم الجمعة، وساعات الليل المستجاب فيها الدعاء، أو القول إن تعيينها نسخ، وأبهمت فارتفع التعيين، وهو ما قال به القرطبي «لتعارض الأدلّة وعدم الترجيح، فلم يبق إلا المحافظة على جميعها وأدائها في أوقاتها»، واجتهد آخرون في التركيز على صلاة بعينها، كما فعل الشيخ ابن عاشور الذي رجّح أن تكون صلاة الصبح، لأنها الصّلاة التي تكثر المثبطات عنها باختلاف الأقاليم والعصور والأمم، وذهب إلى أن القول بأن الصلاة الوسطى «قُصد إخفاؤها ليحافظ الناس على جميع الصلوات إنما هو قول باطل، لأن الله عرّفها باللام ووصفها، فكيف يكون مجموع هذين المعرّفين غير مفهوم، وأما قياس ذلك على ساعة الجمعة وليلة القدر ففاسد، لأن كليهما قد ذكر بطريق الإبهام، وصحّت الآثار بأنها غير معيّنة».

 

من التجزيء إلى التبيين..

 

أما قراءة حاج حمد فإنها تتجاوز التجزيء إلى التبيين المنهجي في إطار الوحدة القرآنية، وتتلقى المفاهيم وفقا لرؤية أكثر اتساعا وشمولا يتفاعل ضمنها الإنسان مع منهجية القرآن الكريم، فالفارق بين الأسلوب التّحليلي في التّعامل مع القرآن الكريم، والأسلوب التّفسيري التّقليدي يكمن أساسا في «أسلوب المعرفة»، فـ«الفكر التحليلي قد بني حضاريا في عصرنا العلمي الراهن على معالجة الكثرة ارتدادا بها إلى الوحدة، وربط الظواهر ضمن علاقاتها الجدلية بإطارها الموضوعي..»، والقرآن «كون تحكمه بنائية في غاية الانضباط المنهجي (...) فكما تخضع البنائية الكونية لضوابط المجموعة الشمسية كلها، إذا خرج نجم عن مداره واصطدم بغيره اختلت موازين الأجرام كلها، فكذلك القرآن بنائية منضبطة إلى مستوى الحرف وإعرابه وتشكيله، وهو ما يميّز الاستخدام الإلهي للغة، عن الاستخدام البشري»، وقد اتخذ الكتاب - بحكم ترتيبه في المصحف - وحدته العضوية، ففتح الطريق أمام القراءة المنهجية المعرفية، «وهذه إحدى معجزات القرآن إذ النّصّ واحد لا يتغير ولا يتبدل، وتختلف قراءته تبعا للتركيب والفارق النوعي في تطوّر العقل البشري».

لقد ذهب حاج حمد في تعريفه لـ»الصلاة الوسطى» أنها «الصلاة بين الصلوات، أي الصلاة بين كل صلاتين، هي الصلاة بين الفجر والظهر، وبين الظهر والعصر، وبين العصر والمغرب، وبين المغرب والعشاء وهكذا دواليك إلى الفجر من اليوم التالي»، واستدل على ذلك بأن الآية 239 من سورة البقرة، وهي «الآية التي تلي آية الصلاة الوسطى، تشير إلى ضرورة أداء كل الصلوات في حالة الخوف أيا كان وضعنا، راجلين أو راكبين، ولم يميّز أي صلاة بالاستثناء في الذكر، وفي جوّ الحرب والخوف»، فالصلاة الوسطى التي يستثنيها الله تعالى رغما عن التأكيد على كل الصلوات هي الأخطر شأنا، والأكثر قابلية للغفلة، لذلك يرى حاج حمد أن «التذكير الاستثنائي بالصلاة الوسطى هو تذكير ينقض «السهو»».

ويأتي نقض السّهو في قول الله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُون»، و»الويل» هنا لمن يسهو «عن» صلاته وليس لمن يسهو «في» صلاته  - كما يقول حاج حمد - والسّاهي عن صلاته هو رجل مصلّ يؤديها في أوقاتها، وقد يسبق غيره إلى المساجد، ولكنه «يسهو» عنها بعد أدائها، فيسهو عن «الصلاة الوسطى»، فتكون صلاته رياء خالصا، لأنه يقوم فيها بين يدي الله معلنا إيمانه به وخضوعه له، ولكنه بعد الصلاة «يدعّ اليتيم ولا يحضّ على طعام المسكين»، وهو ما يعني أنه «يكذّب بالدّين»، ويتّخذ الصّلاة وسيلة يخفي بها حقيقة نفسه.

 

مقاربة المنهج..

 

لعلنا شكّلنا الآن صورة واضحة عن «الصلاة الوسطى»، وفي رأينا، فإن قراءة حاج حمد تبدو أقرب إلى منهج القرآن الكريم، وأحسن تأويلا، ذلك أن مفهوم «الصلاة الوسطى» في التفسير التقليدي يجعلها جامدة، أقصى ما يفيد منها الإنسان أن يحرص على وقت الصلاة، وهو من شروطها ومذكور صراحة في الآية 103 من سورة النساء، إلا أن المفهوم الذي يجعلها «الصلاة بين صلاتين» يربط الآية بالسّياق القرآني، كما يوسّع الآفاق على كل المستويات، فالصلاة تتواصل بين كل صلاتين لا تتوقف مطلقا، وهو ما يجعل الإنسان متواصلا مع ربه طيلة حياته؛ فتستحيل كل مشاغل الإنسان اليومية إلى صلاة، أكان عاملا أم ذاكرا أم آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، لأنه في كل الحالات لا يسهو عن صلاته التي أدّاها، خوفا من أن تضيع عليه بذنب يأتيه، كما لا يسهو عن صلاته التي ينتظر وقتها، تجنّبا لأن يأتيها بمعصية، وهكذا يتحقّق الهدف الرئيسي من الصلاة في حياة الإنسان «اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون»، فإذا حافظ على «الصلاة الوسطى» ضمن علاقاته الاجتماعية، وممارساته الاقتصادية، وعلم أن كل ما يقوم به في شؤون يومه وليلته، إنما هو صلاة لا تقتضي الركوع والسجود؛ كانت الصلاة الموقوتة حافزا قويّا على العدل والإحسان، وحاجزا منيعا دون الفحشاء والمنكر وكل الأمراض الاجتماعية التي تنخر جسد الأمة، فالصلاة  - بهذا المفهوم -  ترتقي بالإنسان إلى أن يعبد الله كأنه يراه، وليست مجرد طقوس تؤدى في صبح أو عصر، ويستبيح الإنسان بعدها مال اليتيم، ويمنع الطعام عن المسكين.

 

بناء الوعي..

 

لقد لمسنا كيف استعادت قراءة آية الصلاة الوسطى حركية الإنسان المسلم في وسطه الاجتماعي والاقتصادي، حين جعلته واعيا بأن هذه الصلاة «تكشف سلوكه العملي بين كل صلاتين، وأن الله جعل الخُلُق الحسَن ما بين الصلاتين امتدادا للصلاة نفسها، فتحقّقت ديمومة الصلاة» مقترنة بالإنفاق والتصديق بيوم الدين والإشفاق من العذاب، مصداقا لقوله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ،  لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُون»، وتحقّق معها معنى الإنسان المتزّن الصالح لنفسه وأمته.

ونعتقد أننا اقتربنا من «الوعي المنهجي القرآني» - كما يراه حاج حمد - وهو «يهزّ بناءً فلسفيا كاملا في تصوّرات البشرية التاريخية»؛ وثبت لدينا أن «النظرة في القرآن ضمن مرحلتنا الراهنة تختلف في أسلوبها عن النظرة التي حتّمتها أوضاع معينة في مقدمة العالمية الإسلامية الأولى، إذ إن نظرتنا إليه تأتي كنظرة منهجية ترقى من متفرقاته إلى كليته، ومن أجزائه إلى وحدته، ومن سطحه إلى مكنونه»؛ فالله سبحانه وتعالى «لم يغيّب المنهج في القرآن إلا كما غيّب قوانين الطّبيعة في حركة الظواهر».

لقد توطّن لدى حاج حمد، وهي الحال، أن «الفكرة» اليوم  - مهما كانت - لا قيمة لها، ما لم تحقّق عالميّتها طالما نعيش عالمية شاملة فرضها التطوّر الأوروبي؛ وجوهر العالمية الإسلامية الثانية أنه محاولة للإسهام في حلّ المأزق الحضاري العالمي من خلال طرح «رؤية كونية» تتجاوز الرؤيتين الوضعيّة واللاهوتيّة معا، فـ»الوضعية» فرضت على الإنسان أن يكون بين (جدل الإنسان) الذاتي، أو (جدل الطبيعة) الجبري، ليكون في الحالين مجردا من مقوماته الكونية، أمّا «اللاهوت» فقد ساق الإنسان إلى جبرية غيبية يضيع معها الفارق بين النّسبي والمطلق، لذلك انطلق أبو القاسم من إعادة استكشاف القرآن كوعي مطلق يتجاوز كل تقييد تاريخاني أو تحديد جغرافي، دون أن يحدث قطيعة مع مرحلة التنزيل ولا مع مرحلة الكتب السّماوية السّابقة، والتجارب الدينية التي لازمتها، ونبّه حاج حمد إلى أن القرآن كوني في موضوعاته، مطلق في تركيبته، يسترجع الموروث الروحي للبشرية نقديّا، ويمتاز بخاصية الحفظ؛ ولهذا يتميز بضوابط منهجية في صياغته، وضوابط معرفية في قراءته التحليلية.

-يتبع- 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024