اشتغل على وضع أدوات للقراءة أكثر فعّالية..

محمـــد أركـــون.. مــن التفـسـير إلى التّحليــل

محمد كاديك

الحلقة الثانية والأخيرة

 

عطفا على قراءتنا لقانون التأويل عند القاضي أبي بكر بن العربي، نحاول في هذه القراءة، الاقتراب من تحليل محمد أركون لـ»سورة الكهف»، وأسلوبه في محاولة وضع أسس منهجية تكفل قراءة آي الذّكر الحكيم، فأركون يمثل مشروعا حداثيا ضخما، إضافة إلى أن «سورة الكهف» نفسها تطرح إشكالية صعبة المراس، وتضع العقل ـ عبر قراءاتها/ تفسيراتها ـ في مواقف محرجة للغاية.

 

ظاهر أن أركون غفل عن إجرائه المتعلق بعدم عزل الآية عن بقية الآيات التي تتناول نفس الموضوع، وكان ينبغي له أن يقرأ قوله تعالى:»وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ  فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ  يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ،  أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ  إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»، فيجد أن المعنى التزامني بقى قائما، رغما عن صفة «مسلمون» التي يخلص إليها أبناء يعقوب عليه السلام، ولكننا نعتقد أن الأمر سيتغير حين يواصل في استحضار الآيات التي تتناول نفس الموضوع، ويقرأ قول الله تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ  مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ»، وهنا يهتزّ المعنى التزامني، فكلمة «المسلمين» في الآية هي تسمية أُطلقت على جماعة معينة من الناس، ولا تخصّ قطعا اليهود ولا النصارى ولا المشركين، لأن إبراهيم لم يكن من هؤلاء بحسب الآية التي استدل بها أركون، ولا يمكن أن نسحبها - بالتالي - على ما يسميه بـ»الديانات التوحيدية» وفقا لإجراء القراءة الذي يعتمده بطبيعة الحال، فإذا قرأنا آية سورة البقرة وقد تأكد لنا بأن اسم «المسلمون» يحتفظ بالمعنى العميق المتعلق بـ»الخضوع لله وتسليم النفس له»، ويأخذ معنى أعلى يتعلق بتمييز مؤمني ديانة بعينها، فإننا سنرى نقاط اللقاء بين المسلمين والكتابيين أكثر وضوحا، وأنها في متناولنا بالنظر في معنى «الوصية» التي وصى بها إبراهيم عليه السلام بنيه، دون أن نضطر إلى اتهام التركيبات التيولوجية، والقراءات الإسقاطية.

عثرة المنهج

ولا يغيب عنّا أن أركون غفل عن أهمّ ما يكوّن منهجيته في القراءة (أو ما يعدّه اختلافا في تدخله الشخصي بالعملية التفسيرية عن التيارات الأخرى) بسبب مسلّماته الكبرى من جهة، والضغوط الإيديولوجية التي يتعرض لها من جهة أخرى، ولعل هذين العاملين كانا حاضرين حين اضطر إلى تعليق قراءته لسورة «الكهف»، كي يعود إلى إجراء استكشافات أولية، ويعلن عن البداية بدراسة «البنية الرمزية للخطاب القرآني» بعد أن مهّد لها بقراره المتعلق بـ «ضرورة العثور (في قصص سورة الكهف وباقي قصص القرآن) على الغاية المحورية الأساسية، أو المقصد الدّال، وهما شيئان - يقول أركون - يؤكدان ذاتهما عبر تنوّع الأشخاص والأماكن، والتقمصات الدورية للأبطال الحضاريين، والتكررات الرمزية، وإعادة الاستخدامات السيميائية الدلالية أو المنطقية أو الاستدلالية»، ثم يقرر فسح المجال أمام نقد العقل الإسلامي بدلا من البحث عن مصالحات وهمية بين مقولات ميتافيزيقية من قبيل: الإيمان/ العقل، أو الإيمان/ العلم، ويبادر إلى فتح النقاش حول «تحديد المكانة الدلالية للخطاب القرآني»، وذلك من خلال «تحديد تزامني للبنى المثولية أو الملازمة للدلالة والمعنى، الخاصة باللغة العربية ما قبل القرآنية» ثم «بلورة تحديد بنيوي نشوئي قادر على متابعة التوسع الدلالي للخطاب القرآني وانتشاره داخل الأنظمة الدلالية الثانوية»؛ لأنها أنظمة تطبع بطابعها وسماتها كل الثقافات الإسلامية كما يقول أركون، ليخلص إلى ضرورة دراسة مسألة إضفاء التعالي على الأشياء بصفته ممارسة مشتركة لدى جميع المجتمعات التي انتشرت بها ظاهرة الكتاب المقدس، ويؤكد على أنه ينبغي على التحليل النفسي –الاجتماعي - التاريخي أن يكشف في كل عمل فكري وفي كل فترة، عن مختلف مستويات التعالي الذي يمكنه أن يكون عبارة عن مجاز مثالي رائع، أو أسطرة، أو تزييف، أو تحريف، أو أدلجة، ويذهب أركون إلى أن تحليل سورة الكهف ومختلف القصص التوراتية والإنجيلية والقرآنية، من شأنه أن يبيّن تطوّر التنظيم السردي كمجاز ضخم يحمل في طياته شيئا من التعالي أو من الروحانية بمساعدة نقاط ارتكاز مادية أو فيزيائية كالكهف والكلب والسنوات الثلاثمائة وتسع، والحوت والصخرة ومجمع البحرين والسفينة والجدار والقرية غير المضيافة.. إلخ، ثم يقول بأن الخطابات الثانوية تحوّل القولبة الروحية للمحيط الفيزيائي المادي وللزمنية الطبيعية إلى نظام معياري إيديولوجي أو مؤسطِر أو مزيّف، حينما تهتم بالمراتبيات الاجتماعية الهرمية، أو تثبت الحالات الذاتية (الصوفية)، ويرى بأن الانتقال من مرحلة «المجاز الحيّ» إلى التسمية الصارمة يكمن على هذا المستوى بالذات، لذلك ينبغي تتبع هذا الانتقال عبر تطوّر الثقافة الإسلامية ومسارها الطويل حتى يومنا هذا.

إن المنهج العلمي الصارم الذي توخاه محمد أركون في رسم معالم نهضة فعلية، مكّنه من وضع يده على إشكاليات غاية في الأهمية، فقد تمكن من توصيف قطيعتين مزدوجتين يعاني منهما «العرب» على مستوى الخلق والإبداع، أولاهما قياسا إلى الفترة المنتجة والتأسيسية من تراثهم التي يعتقدون أنهم يعرفونها، والثانية قياسا إلى العقلانية الغربية التي ما تزال تتطلب معرفة منهجية دقيقة مختلفة عن تلك المعرفة المشتتة والناقصة (التي حصلت في مرحلتي «النهضة» فـ»الثورة»)، والنهضة - كما يرى أركون - تتطلب الاتصال بهاتين الفترتين لقراءتهما من جديد واستكشافهما، غير أن تطبيقات أركون في قراءته لـ»الفاتحة» أو لـ»العلق»، على غرار قراءته لـ»الكهف» التي اضطر إلى تعليقها، لم تكن مثمرة كما ينبغي لها، ولا نظن أن توغله إلى «البنية الرمزية للخطاب القرآني» سيؤدي إلى نتائج أحسن من تلك التي توصل إليها هو ينتقل من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب، فالإشكالية في قراءة «القرآن» مختلفة تماما عما هي حال التوراة والأناجيل، ولا يمكن معالجتها معا بنفس الأدوات، مهما حلّقت هذه الأدوات في ذرى الحداثة، فنحن على الأقل متأكدين بأن الخطابات الثانوية - في الحالة الإسلامية - لم تختلط بالنص التأسيسي، لذلك نقول بأن قارئ القرآن أحسن حالا من قارئ التوراة والإنجيل معا، فهو سيكون أكثر راحة لأنه لن يضطر إلى تلفيق ما يسمح له بنقل «رؤيا يوحنا»  ـ مثلا ـ من خيالها المجنّح إلى واقع الناس، ولن تضيره «التصورات الخاطئة المنتشرة حاليا بشكل واسع من قبل الاستخدام الأحادي والتعزيمي والمؤسطر لمصطلح «الإسلام»» لأن هذه التصورات ليست سوى محصلة لخطابات ثانوية لا يمكنها أن تبلغ مستوى «المقدس»، ثم إن إشكالية القراءة لا تكمن في قصور القارئ المنهجي أو المعرفي، ولا في انحرافه الخلقي أو انحيازه المذهبي - كما يرى علي حرب - وإنما قوام الإشكالية أن النص بذاته يحتمل أكثر من قراءة، وأنه لا قراءة منزهة، مجردة، إذ كل قراءة في نص ما، هي حرف لألفاظه، وإزاحة لمعانيه.

 

اختلافات دقيقة..

ويكفي برهانا على أن الإشكالية لا يمكن طرحها بنفس الكيفية لقراءة القرآن الكريم، وقراءة العهدين القديم والجديد، بمجرد ملاحظة الاختلاف الجذري بين الكتب الثلاث على مستوى اللغة، فالتوراة والإنجيل نقلا من لغات ميتة، ولم يحتفظا باللغة التي كتبا بها أول مرة، ولقد لمس سبينوزا هذا الواقع، وأحسّ صعوبة في تحقيق منهجه القائم على قاعدة تنص على أن «معرفة الكتاب تستمد من الكتاب نفسه»، فأشار إلى أن «علماء اللغة العبرية القدماء لم يتركوا للخلف أي شيء بشأن الأسس والمبادئ التي تقوم عليها هذه اللغة (...) لقد ضاعت تقريبا جميع أسماء الفاكهة والطيور والأسماك وأسماء أخرى على مرّ الزمان، كما أن معاني كثيرة من الأسماء والأفعال التي نصادفها في التوراة، إما مفقودة، أو على الأقل مختلف عليها، فقد محا الزمن كل العبارات والأساليب الخاصة التي استعملها العبرانيون تقريبا من ذاكرة الناس»، والحال مختلفة بالنسبة للغة العربية التي تواصلت عبر التاريخ.

ولا يفوتنا أن الكشف عن مستويات التعالي في الأعمال الفكرية عبر مختلف المراحل التاريخية إنما يمثل إعادة بناء الماضي بتفكيك عناصره وترتيب العلاقة بين أجزائه بصفة تجعله كلا جديدا قادرا على أن يؤسس نهضة، فالنهضة تقتضي الانطلاق من التراث لإعادة بنائه قصد تجاوزه، ولا يمكن أن تتحقق بالرجوع إلى الماضي واختيار ما يصلح منه، أو الإعراض عنه كليا، والإغراق في حاضر يمنعنا عنه ما يسميه أركون بـ»التفاوت التاريخي»، فـ»إضفاء التعالي على الأشياء» ليس ممارسة ثقافية مشتركة لدى جميع المجتمعات التي انتشرت فيها ظاهرة الكتاب المقدس وبحسب، كما يقول أركون، وإنما هو سمة إنسانية، ولعل هذا ما جعله يبدو متناقضا حين قرر أن هدف القراءة هو الإسهام في «تحرير المعرفة التاريخية من إطار القصة ومجرياتها من أجل جعلها تتوصل إلى وظيفة الكشف عن الرهانات الحقيقية للتاريخية» ما استشف منه هاشم صالح أن أركون يريد تجاوز المثال الإسلامي لكي يتوصل إلى معرفة أكثر عمومية، إذ لا ينبغي اتخاذ التراث الإسلامي كمطلق، بل ينبغي الاتكاء عليه كالتراث المسيحي أو اليهودي أو الهندوسي من أجل التوصل إلى معرفة كونية بالإنسان والتاريخ، من أجل الكشف عن الرهانات الحقيقية لحركة التاريخ، وهذا انقلاب صريح في موقف هاشم صالح الذي رفض من قبل فهم ظاهرة التقديس عبر كلّ تجلياتها لدى الإنسان بصفتها تشكل جوهرا يجمع بين كل الديانات، لأن ذلك يعني اختزال الدين والقضاء على خصوصيته وتعاليه من خلال تطبيق المنهجية التاريخية على كل الديانات، وهو ما رفضه أركون بدوره، معتبرا أن من يسميهم بـ»اللاهوتيين المحترفين» سيعترضون على مشروعه (قراءته) زاعمين أنه يريد أن يختزل كلام الله إلى مجرد مشروع أنثروبولوجي مهدد بالإغراء الوضعي.

ختامــــا..

إن مشروع أركون لا يقصد مطلقا إلى اختزال القرآن الكريم إلى مشروع أنثروبولوجي، ولقد أسلفنا أن منهجه العلمي مكّنه من وضع يده على إشكاليات غاية في الأهمية يعانيها المجتمع الإسلامي، وتقف حجر عثرة في طريقه إلى النهضة، ولكن المسلّمات الأولى التي انطلق منها أركون مستقاة في معظمها من مستشرقين بعيدين عن التراث الإسلامي على مستويات اللغة والتاريخ والمواقف التيولوجية، إضافة إلى أن الأبعاد الإيديولوجية التي ترتسم وراء مشروعه تؤثر مباشرة على قراءته، وتبعد به عن الموضوعية المنشودة.

 

( للموضوع مراجع)

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024