قرأتُ مؤخّرا إحصائية تقول إنّ 70 مليون عربي يستعملون “فايسبوك”، ولاحظتُ ـ من خلال تعاملي مع عرب فايسبوك ـ أنّ كثيرا من هؤلاء يعتقدون أنّ “فايسبوك” هو أنترنيت، فقد انسحب الاسم على موقع واحد دون ملايين المواقع، وصار الواحد من “المواطنين المفترضين” يقضي السّاعات الطّوال في عالم الحريّة، محبوسا في مكان واحد لا يبرحه.
لم أندهش للظاهرة العربية، فالعقل عندنا ـ كما وصفه بن نبي ـ له قدرة عجيبة على تفجير الأفكار والتعلّق بأصغر ذرّة منها، فهو يأتي إلى “فكرة أنترنيت” مثلا، ويبدأ بتشطيرها وفق ميولاته ورغباته وآماله ومكبوتاته، ثم يحوّل ـ بمهارة ـ أصغر ذرّة من الفكرة إلى عالم كامل يعيش في ظلاله وهو مرتاح الضمير، يعتقد أنه فتح الفتوح.
بين التّواصل والتّنابز
قد يقول قائل إن “فايسبوك” الذي تلوم عليه الـ 70 بالمائة من العرب، إنما هو مقصد كل البشر حاليا، فهو يحصي الملايير من المنتسبين، وينشر الملايير من الصور، ويمرّر الملايير من الإشهارات بلغات العالم جميعها. وأنا أوافق على هذا الكلام تماما، ولا أنكر فائدة موقع التواصل هذا، بالمقارنة مع ملايين من المواقع الأخرى، ولكنّني هنا أقصد إلى الحديث عن مهارة العقل الذري في تشطير الأفكار بالدرجة الأولى، فـ “فايسبوك” و«تويتر” و«لاينكد إن”، وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي هي في أساسها كما نسمّيها معا: “مواقع تواصل”، ولكن العقل الذّري بقدرته الفائقة جعل منها “مواقع تعارف”. وإذا كان الفرق بين “التواصل” و«التعارف” لا يحتاج إلى كبير عناء، فإنّ قول كلمة “تواصل” وتشفيرها، ومعاودة تفكيك شفرتها إلى مفهوم “تعارف”، يمثل ظاهرة لا يمكن أن تمرّ دون أن تثير الانتباه. ومن أبسط نتائج هذا الانتقال بين “اللفظ” و«المعنى” أن الواحد من منتسبي الواجهة الزرقاء صار يأتي إليك، فيطلب صداقتك (بما هو معنى الصداقة النبيل)، ثم يدخل صفحتك، فلا تعجبه مواقفك ولا يرضى عن كلامك، فيبدأ أولا بإلغاء حريتك، ثم يتمادى إلى بريدك فيرسل لك من “الشتائم” و«السباب” ما لا يقدر بشرٌ على تحمّله، وقد يرعد ويبرق ويهددك بالقتل..فقط..لأنك رضيت به أن يكون على قائمة “أصدقائك”. أما صاحبك فيترك صفحتك مزهوا بانتصاره، فهو يعتبر بأنّه “جاهد في سبيل الله”، ما دام رفع الضغط في رأسك وأرغمك على شرح مواقفك، وجعلك تحاول أن تبيّن له قصدك دون أن تضع في حسبانك بأنك يمكن أن تكون مع شخص لا يتعدى مستواه السادسة ابتدائي، فيضيع الوقت ويتحول التواصل إلى تنابز، لتغادر في الأخير صفحتك منهكا، في انتظار جولات أخرى يحتفظ بها لك “التواصل” إلى يوم جديد.
ولا أعتقدُ أنّ في العرب من لم يعش هذه الحوادث، ولقد حاولت أن أبحث عن مثلها على جدران بقية البشر، فلم أجد لها مثيلا لحد الآن. تواصلتُ مع الفرنسيين والإسبان والأمريكيين والهنود، تواصلتُ مع أشخاص من النرويج وفنلندا وألمانيا، ووجدت “فايسبوك” مختلفا تماما عما يفرض علينا (أصدقاؤنا) المفترضين. وجدتُ بقية العالم لا تطيل الحديث في مواضيع بلا فائدة، والكاتب منهم مثلا، يقدّم وجهة نظره بهدوء، وتحسُّ بالفرحة تقفز من (راقنه) حين تعرض عليه وجهة نظر مخالفة، لأنّ الفكرة المخالفة عندهم هي السّانحة الفريدة لـ “الفكرة” كي تكبر.
حوار طرشان في مزرعة سعيدة
لعل الكلام عن “مِنح” أنترنيت يبدو غير مسبوق في العالم العربي، رغم أنه قد يكون ناهز الستين عاما من عمره الكريم؛ ولقد سبق لألفين توفلر قبل خمسين عاما أن وصف ما أسماه آنذاك بـ “صدمة المستقبل”، ولكنه لم يتوقّع مطلقا أن تكون بهذا الحجم الذي احتواها به “العقل الذريّ”.
لنتحدّث عن “برنامج المزرعة السعيدة” بفايسبوك، فهو يقدّم صورة نموذجية عن طبيعة الفلاحين العرب المفترضين، وأجمل ما في هذه “المزرعة” أنّ أولاد بلادنا يمارسون بها الزراعة بلا تأفّف ولا إحساس بالهوان على الناس، بل يأتونها مقبلين غير مدبرين، فرحين غير مستائين، ولكنهم دائما يجدون أنفسهم في حاجة إلى معونة أصدقاء يزرعون معهم. ولقد تجاوز فلاحونا المفترضون الأشاوس، إشكالية إقناع الآخرين بالزراعة، وصار الواحد منهم “ينسخ” من نفسه مجموعة محترمة من “البروفايلات” كي يستغني عن الجميع ويزرع وحده، ولا تسلني عن فرحته وهو يوفر الحليب للأسواق، في الافتراض طبعا، لأنه لا يتحمّل مجرد الحديث عن الزراعة في الواقع.
ومع هذا، يجب أن نسجّل أنّ أنترنيت، بما هي الطريق السريع للمعلومات، لها فوائدها الجمّة، وأعرف شخصيّا من تعلّم كثيرا من اللغات بفضل أنترنيت، وهناك من فتح الله عليه بأفكار في تجارته، أو كتب لأبحاثه، أو حتى بـ “زواج لضمان إقامته”. الفرص كلها متاحة، ولكن رؤية “الفرص” تقتضي ترتيب الأفكار وفق الأهداف المرسومة؛ وهي ليست في متناول عقل لم يهضم بعد الفكرة المؤسسة لأنترنيت.
يداك رقنتا و«سكايبك” نطق
حينما أطالع بحرا من عناوين الدراسات الغربية المتعلقة بأنترنيت، وأرى في مكتباتنا بعض العناوين التي تكتفي بوضع تعريفات لـ “الإيمايل” وتصفه بأنه بريد رقمي يختلف عن البريد العادي، أصاب بحالة من الإحباط، ولا أرى أيّ ضرورة للدعوة إلى التعمق في الأفكار المؤسسة للتواصل الافتراضي. لا أرى ضرورة لأي مقترح يكون مفيدا في استعمال مواقع التواصل الاجتماعي؛ فقد تعودّنا جميعا على “النسيان”، ووضعنا حاسة “النقد” في ثلاجة، ولا نكاد نرى المفارقات التي تغلف يومياتنا. ولكنني مع هذا، أرى ـ بأضعف الإيمان ـ أنه ينبغي الانتباه إلى أن هذه المواقع التواصلية، ليست أنترنيت كما يبدو لبعض سجناء “مفارقة الكهف” الأفلاطونية، فهم يرون الظلال ويحسبونها الواقع الحقيقي، ولكن سيكتشفون في يوم من الأيام أنّ “الحقيقة” التي عاشوها لم تكن غير أوهام، سيكتشفون أنّهم “استُخدِموا” وهم يحسبُون أنّهم “استَخدَموا”، وصدمة مثل هذه قد تصيب في الصّميم.