إيذير.. أو «يعيش».. هو الاسم الذي أُطلِق على حميد شريت، حتى يجلب له الحظ.. ستكتبُ عنه الأقلام سيرته، ميلاده، أعماله، أغانيه، آراءه.. وسأكتبُ عنه هنا ما أحسسته في بعض المرّات التي التقيته فيها.. وأقول هنا، ونحن نحتفل باليوم العالمي لحرية الصحافة، إن هذه المهنة هي التي مكّنتنا من حظّ لقاء شخصيات كبيرة، كان إيدير أحدها.
للمطرب نفسية وطريقة في التعبير تختلف عن غيره.. المطرب يعبّر عن نفسه وأفكاره بأغانيه أكثر من أيّ شيء آخر.. أذكر أنني سألته إن كنّا سنشاهده حاضرا أكثر، ليس في المشهد الثقافي الجزائري فقط ولكن السياسي أيضا، فأجاب بأنه ليس سياسيا، «فالسياسة حرفة»، والفنان ليس له أن ينتمي إلى حزب سياسي ما، قد يتعارض يوما مع فنّه ومبادئه.. ثمّ لماذا التخلّي عن سلاح أقوى مثل الفنّ؟، «بأغانيك لديك شكل من أشكال القدرة على التأثير»، قال لي إيدير.
كان لسنوات السبعينيات، بزخمها السياسي والثقافي، التأثير الكبير على الشباب حينها، في بلد يُلقّب بقبلة الثوار، يزوره كبار الرؤساء والزعماء وقادة الحركات التحررية في العالم، بلد محوري في حركة عدم الانحياز، وكان ذلك يملأ الفنانين الشباب فخرا وأملا.. هكذا لخّص إيدير تلك الفترة من حياته وحياة أقرانه، لذلك: «كانت أغانينا ثائرة ومناضلة وتزرع الفرح في نفس الوقت، كنا كشباب نستطيع أن نجمع بين النضال والفرح في نفس الوقت»، كما قال لنا ذات مرّة.. ولكن « الأمور اختلفت الآن، كثير من أغاني اليوم ذات موسيقى جميلة وراقصة ولكنك لا تتعرّف على ذاتك فيها».
لم ينقطع الدا حميد عن الجزائر، إلا كمغنّ، وكان يأتي لأسباب مختلفة ما عدا الغناء بشكل رسمي.. بل وكان يؤدّي في بعض القرى هنا وهناك.. «من الصعب الانفصال عن هذا البلد»، كما قال..
أذكر حينما ذرف إيدير الدموع مباشرة مع أغنيته الثانية في الحفل الذي أنهى أربعة عقود من الغياب.. كان إيدير قد بكى تحت وقع الأحاسيس، مع أنه «ليس من النوع الحساس جدا، ولكن..»، كما قال حينها..
كان إيدير يشكو الغربة، التي يصفها في أغنيته «آغريب»، والتي أهداها في نفس الحفل «للمهاجرين الذين سافروا بحثا عن لقمة العيش، إلى بلاد لا يعرفون لغتها ولا تقاليدها»، وتصورهم إيدير في غرفة الفندق، بعيدا عن أبنائهم الذين يكبرون دون رؤيتهم، وبعيدا عن زوجات ينتظرن ويأملن في عودة الزوج المهاجر.. «هي كذلك قصتنا»، كما قال الفنان.. ولكن من قد يحسّ بألم الغربة أكثر؟ المهاجر الباحث عن لقمة العيش، أم المرأة التي تركها في «البلاد» تنتظره وتواجه الزمن ونوائبه لوحدها؟ لم تحظ الأم أو الزوجة حينها ببركات وسائل التواصل.. لم يكن هنالك سكايب أو واتساب أو غيرهما من تطبيقات الاتصال.. كان الرجل يعاني في الغربة، وكانت المرأة تتغرّب في المعاناة.. لأجلهنّ غنّى إيدير، وبهنّ أحسّ.
أذكر حينما أهدى رائعته «آسندو» إلى والدته، وإلى كل امرأة لا تجد من تخاطب وتشكو إليه همها، ووطأة السنين والظروف والمحيط، وأهداها إلى كل الحضور بقوله: «لسنا نساءً أو رجالا، بل الآلاف من القلوب الجالسة الواحد بمحاذاة الآخر».. وكتبتُ حينها: أيّ شعر هذا، وأيّ شاعر ذاك؟
لقد كان للمرأة الحضور اللافت في أغانيه، ولم يأتِ ذلك من عدم، بل كانت أنجح أعماله مستقاة من أشعار الجدّات القديمة، حيث التوظيف الرمزي، والغرائبيّ أحيانا، لعناصر الطبيعة.. لم يكن بإمكان النساء الغناء بالشكل الذي نراه اليوم، فكان على الرجال حمل هذا الفن على لسانهن إلى العالم، ومن هؤلاء إيدير.
إيدير فنان أحسن الدعابة، وأحبّها، وكان يفهمها حينما تأتي من الآخر، لذلك ارتسمت على محيّاه ابتسامة تكاد تكون دائمة.. أذكر ما قاله لي في أوّل لقاء لنا، حينما طلبتُ منه أخذ صورة معه: «لكي نلتقط صورة، يجب أن نبتسم».. لقد جمع إيدير بين صورة الفنان الخجول، ونقيضها.. وإذا كانت من أسباب الصورة الأولى هدوءه وطريقته في الأداء والكلام، فإنه لم يخجل يوما من التعبير عن حبّه لجذوره، لبلده، لأهله وذويه، ولفنّه والمبادئ التي آمن بها.
أذكر أن آخر مرّة التقيته فيها بشكل مباشر، خارج نطاق العمل، كانت ذات عشيّة بساحة رياض الفتح.. اقتربت منه فقابلني بذات الابتسامة المعهودة، التي لولاها لشككتُ أنه هو.. بعد حديث مقتضب، سألته إن كان يودّ الاستماع لقصيدة/أغنية كنت قد ألّفتها حينها.. اعترفتُ له بأنّها نابعة من نفس المنبع وأغانيه، فمازحني ضاحكا: «ياخي ما سرقتهاش من عندي؟».. استمع باهتمام وتركيز، وسألني عمّن سيؤدّيها، ثمّ قال إنه سيكون سعيدا جدّا بالاستماع إليها حين صدورها.. كنتُ أظنّ أنه يشجّعني فقط، ولكنّه نفى أن يكون ما قاله لي مجرّد تشجيع.. هكذا كان الرجل خارج أوقات العمل وميكروفونات الإعلام.
وإذا كُتب لنا لقاء إيدير شخصيا في أحيان، فقد كُتب لنا لقاء أغانيه كثيرا، وبلا مواعيد.. لقد كانت أعماله، وستبقى، سفيرة الفن الجزائري الأمازيغي بنكهة الجذور والتاريخ.. وأذكر أنني أسمعتُ أغانيه في أكثر مناسبة، لأشخاص من مختلف الجنسيات، من آسيا وأوروبا، وكنت أرى نفس علامات الانبهار ترتسم على محيّاهم. الفنانة الماليزية روزماري مثال حيّ على ذلك، وهي التي كانت ردّة فعلها الأولى، حينما اقترحتُ عليها إحدى أغاني إيدير، أن شاركتها على صفحتها، وهي تُعرب عن سعادتها باكتشاف هذه الموسيقى القادمة من الجزائر.
من أجل ذلك أقول: إن إيدير ليس مِلك الجزائريين وحدهم، بل هو فنّان الإنسانية، وإبداعاته، بنكهتها المحليّة، تخاطب العالم ولا تعترف بالحدود الجغرافية.
لقد قال لي إيدير، في مناسبة أو اثنتين، إنه بدأ يحسّ بالتعب ووطأة الزمن، وأن الأمور لم تبقَ مثل السابق.. كان هذا الرجل الذي ألهم الملايين يُدرك ما للجسد من حدود، تماما كما كان يُدرك أنْ لا حدود للروح..
كان قد تمنّى أن يغنّي في الجزائر مجدّدا، وأن يلتقي جمهوره قبل الرحيل، فكان له ذلك..
إيذير.. أو «يعيش».. هو الاسم الذي أُطلِق على حميد شريت، حتى يجلب له الحظ.. فكان له الحظّ، والمجد، وأن «يعيش» فينا حتى بعد رحيله.. رحمة الله عليك أيها الفنّان الجميل..