في المسرح الجزائري تجليات عديدة للتراث، سواءً المادي منه أو غير مادي، على اعتباره مقوما من مقومات الذات الجزائرية ووسيلة أساسية للحفاظ على الهوية أمام ضغط التحديات المعاصرة.
في هذا الصدد، سلط عدد من المسرحيين والباحثين الضوء على توظيف التراث في المسرح الجزائري، تزامنا وانطلاق شهر التراث. كان ذلك بمناسبة موضوع العدد الثامن والعشرين من منتدى المسرح الوطني الجزائري، الذي كان ضيفه الرئيسي أ.د.أحسن ثليلاني، وعالج فيه موضوع «إشكالية المسرح والتراث». ولم يخلُ النقاش من مداخلات لأكاديميين ونقاد تصدّوا لمصطلح التراث ومدى توظيفه في المسرحيْـن الجزائري والعربي.
كان الضيف الرئيسي لهذا العدد الجديد من منتدى المسرح الوطني الجزائري، الدكتور احسن ثليلاني، الذي اعتبر في مداخلته أن الباحث لا يجانب الصواب عندما يلاحظ أن المسرح هو أكثر الأشكال الفنية حملا للتراث واحتضانا وتوظيفا له، من أجل تحقيق الأهداف السياسية والاجتماعية والفنية التي يتوخاها المسرحي من وراء ذلك التوظيف. فقد نشأ المسرح الجزائري والعربي عامة متوسلا بالتراث لاستنبات هذا الفن الأوروبي في التربة العربية. كما أن ظاهرة حضور التراث قد ألقت بظلالها في المنجز المسرحي الجزائري والعربي عبر كل مراحل تطوره إلى اليوم، وهي ظاهرة صحية تعزز من أهمية المسرح ومن أهمية التراث على حد السواء.
ثليلاني: التراث روح الماضي والحاضر والمستقبل
وإذا كانت الجزائر على غرار مختلف البلدان قد خصصت شهرا كاملا للاحتفاء بالتراث وحفظه وتمجيده، يضيف ثليلاني، فإن مناقشة موضوع «المسرح والتراث» هومن صميم المناقشات العلمية المتصلة بالاهتمام بهذه الإشكالية.
ويرى ثليلاني أن مصطلح التراث ربما كان من بين أهم المصطلحات ذيوعا في حقل الدراسات النقدية والإنسانية المعاصرة، لأسباب مختلفة تتعلق في الغالب بمسائل التحرر والنهوض، والتراث هوكل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة، وهوبمعناه الواسع ما خلفه السلف للخلف من ماديات ومعنويات أيا كان نوعها.. فالتراث هوذلك المخزون الثقافي المتنوع والمتوارث من قبل الآباء والأجداد، والمشتمل على القيم الدينية والتاريخية والحضارية والشعبية، بما فيها من عادات وتقاليد، سواء كانت هذه القيم مدونة في كتب التراث، أومبثوثة بين سطورها، أومتوارثة أومكتسبة بمرور الزمن. وبعبارة أكثر وضوحا: «إن التراث هوروح الماضي وروح الحاضر وروح المستقبل بالنسبة للإنسان الذي يحيا بـه، وتمـوت شخصيته وهويته إذا ابتعد عنه، أوفقده»، يؤكد ثليلاني، مشيرا إلى ضرورة التفريق بين مصطلحي التراث والإرث «باعتبار أن الإرث هوما يرثه الابن عن أبيه بعد أن يموت هذا الأخير، فهوعنوان على اختفاء الأب وحلول الابن محله. أما التراث فهوما يبقى حاضرا في الخلف من السلف، وبالتالي فهوعنوان على حضور السلف في الخلف»، ذلك أن أهمية التراث تكمن في قدرته على التواصل والاستمرار في الحاضر، بل والتوجه نحوالمستقبل، ولعل هذا ما أراده «أدونيس» إذ يقول: «ليس التراث ما يصنعك، بل ما تصنعه. التراث هوما يولد بين شفتيك ويتحرك بين يديك. التراث لا ينقل بل يخلق.» وعلى الرغم من ارتباط التراث بالماضي في صورة من الصور، إلا أن هذا الارتباط لا ينبغي أن يجعلنا نغفل ـ كما يؤكد أدونيس ـ أن «ليس الماضي كل ما مضى. الماضي نقطة مضيئة في مساحة معتمة شاسعة». من هنا تنبع حاجة المبدع إلى التواصل مع تراث أمته قصد الاستفادة منه باستلهامه وتوظيفه.
واعتبر ثليلاني أن التراث ليس قيمة في ذاته، ولكنه يكتسب قيمته من خلال ما يمنحه للمبدع من فضاءات ورؤى تغني تجربته وتثري منتجه الفني، فإننا نرى من الفائدة أن نشير إلى أن وعي المسرحي العربي عموما بأهمية توظيف التراث لم يكن طفرة واحدة، ولكنه مر بمراحل متباينة كان فيها حضور التراث بمستويات متعددة يمكن إبراز بعضها كما يأتي:
أولا: مستوى مسرحة التراث حيث جرى التعبير عن هذا التراث فاستغرق المسرحي فيه وسجله أوعرضه كما هودون إضافة أوتفسير.
ثانيا: مستوى التعبير بالتراث، حيث وظف المسرحي التراث، واستخدمه استخداما فنيا بغرض التعبير عن هموم العصر وقضاياه، وذلك بعد تأويل العناصر التراثية تأويلا معاصرا.
ثالثا: مستوى التأصيل بالمراهنة على أشكال التعبير المسرحي في التراث، والتنظير لهذه الأشكال التراثية.
ليلى بن عائشة: قليل من يحاور التراث فنيّا بفاعلية
رأت الأكاديمية والناقدة د.ليلى بن عائشة في مسرحة التراث وتوظيفه ثيمة قديمة متجددة. ووصفت التراث بالمعين الذي لا ينضب والبوتقة التي ينصهر فيها بكل أشكاله وبفسيفسائيته وتنوعه، والذي لا يعطي إلا بقدر عطاء الفنان له وإدراك كنهه الحقيقي والمعرفة بما يكتنزه، وبما يمكن أن يبوح به إذا أُحْسِن استثماره. وأضافت أنه قلَّ من يدرك الحقيقة الجمالية للاستثمار الفني للتراث فيحاوره بفاعلية، ليشي بدوره ويفصح عن مكنوناته، فإذا كان الرعيل الأول قد تعامل مع التراث في سياق الظروف المحيطة بالمسرح الجزائري وواقعه السياسي خاصة في ظل الاستعمار الفرنسي وأثمر ذلك تمسكا بالهوية، والعقيدة، فماذا قدم المسرح الجزائري الحديث والمعاصر في تعامله مع التراث؟ ورأت بن عائشة أنه باستثناء بعض التجارب الرائدة التي حاورت التراث وتفاعلت معه واقتحمته، وأقحمته وانصهرت معه على غرار تجربة كاكي، يرى البعض أننا لا نكاد نعثر على تجربة متواصلة وممتدة قوامها البحث الدقيق في سياق التفاعل مع التراث شكلا ومضمونا. وتساءلت: أين يمكن أن نموقع التجارب المعاصرة التي تعاملت مع التراث؟ وهل حاولت أن تخلق لنفسها اتجاها يرسم ملامح المسرح الجزائري المعاصر الذي ينطلق من ذاته ليعود إليها، يؤسس لنفسه بالاستناد الفاعل لا الأعرج على التراث؟ هل تجاوزنا الصورة النمطية في التعامل مع التراث في مسرحنا انطلاقا من تجارب عديدة وأسماء مختلفة؟ هل تمثلت التجارب الحالية التراث بطريقة جمالية وفنية من شأنها أن تعطي دفعا لهذا المسرح قد يصل إلى التنظير، أم أنه تعامل شكلي سطحي مفرغ من رؤية ولا يستند إلى أرضية صلبة؟
بوخليفة: المقاربة في الاشتغال على التراث لا تنفع المسرح
اعتبر الدكتور حبيب بوخليفة أن إشكالية «التراث والمسرح» إشكالية حاضرة في كل جيل، منذ أن بدأت الإنسانية بالتعبير الوجداني عن كينونتها. «إنه الذاكرة المتحركة الشعوب والملل والأطياف، فاليونانيون القدماء أسسوا ونظروا للمسرح من خلال أساطيرهم المختلفة، ثم عصر النهضة في ظهور الكلاسيكيين الجدد كان على إثر ما تقدم من في الحضارة اليونانية، وهكذا دواليب التاريخ الثقافي لكل المجتمعات». ويرى بوخليفة أنه في عصرنا الحديث تأثر الكثير من الممارسين بالموروث الثقافي الشرقي، وذكر على سبيل المثال لا الحصر ميرهولد وبريشت، وبيتر بروك، مريان منوشكين. وقد بحثوا أساسا في الأشكال الطقوسية الاحتفالية لكل من المجتمعات العربية والآسياوية والأفريقية (قريو، نو، كابوكي، التعازي، رقصة الدراويش) يبقى فقط التساؤل حول المقاربة الجادة التي تسمح للممارس الفن المسرحي أن يشتغل على هذا الموروث الثقافي سواء كان موسيقى أورقص، طقوس احتفالية أوحكايات، فنون تشكيلية شعبية أوأدب شعري (الملحون) وكيف يمكن الربط بين التراث والممارسة المسرحية.
ويعتقد بوخليفة جازما أنه إذا غابت المعرفة المسرحية في موقع إعادة صياغة الموروث الثقافي فحتما ستكون النتائج وخيمة. وسيحدث عكس ما يمكن أن نتصوره مفيدا لرسم قيم ومعالم الهوية. وإذا انطلقنا من المفهوم العام للتراث، بأنه كل ما تركه الأجداد من آثار مادية واللامادية، معنوية أومحسوسة في شتى فصوله الموجودة أنواعه. اعتبره تراكم حضاري يخترق الزمان والمكان، هل يمكن تصور حضارة بدون تراث؟ فالحضارة العربية الاسلامية من أرقى الحضارات على سطح المعمورة فهي تزخر بإرث تراثي هائل لا نظير له اليوم.. وحتى العادات والتقاليد تعدّ جزءً غير منفصلا عن التراث مكنه من مقاومة الحداثة السلبية المستنسخة عن الغرب، التي تتلخص في الابتداع والاتباع وأحيانا الاستنساخ. ولعل أول تجارب الاشتغال على عناصر التراث اللامادي، يقول بوخليفة، كانت من طرف المسرحيين كاكي وطيب الصديقي وعلولة على المستوى المغرب العربي. ولكن بصفة مؤقتة كوسيلة سياسية ايديولوجية لتوعية المتلقي بطبيعة العرض المسرحي الارسطي. ويعتبر بوخليفة أن كاكي هوالاول في العالم العربي الذي بدأ الاشتغال على الموروث الثقافي اللامادي. بينما تلقى الطيب الصديقي أول دروسه في الفن المسرحي في الجزائر وكانت له صلة بكاكي وعلولة تميز فيما بعد بأعمال على «الاحتفالية» لعبد الكريم برشيد واستمر في بلورة هذا الشكل «المسرح الاحتفالي» إلى غاية وفاته. وبالنسبة لكاكي فجاء الى النوع التراجيدي من خلال الشكل الملحمي بعد تجاربه الارسطية ثم عبد القادر علولة خاص معركة الاشتغال على التراث من خلال عُرف «لابد الأذن أن ترى وللعين أن تسمع» وهذا في ثلاثيته المعروفة «الاقوال، الاجواد، اللثام».
وقال بوخليفة إنه التقى علولة في ربيع 1992 عندما كان عضوالمجلس الأعلى للثقافة، وأكد له بالحرف الواحد قائلا: «سأعود الى النص الكلاسيكي حتما، تجربتي انتهت لعل الاجيال القادمة تخوضها بأدوات ومقاربات مختلفة»، وحدثه عن النص الذي كان يشتغل عليه «ارلوكان خادم السيدين» لكارلوس غودزي. وبعد ذلك لم نر أعمالا مسرحية متميزة في هذا الاتجاه. «من الضروري البحث في تراثنا الثري بصور ومحتويات فريدة مثل «السبيبة» و»ايراد» و»الناير» و»بوغنجة» و»المولد النبوي» الشريف الى اشعار بن قيطون واشعار سيدي لخضر بن خلوف، والطقوس الاحتفالية المختلفة عبر التراب الوطني لكي نرسخ ذاكرتنا ونعطي لها بعدا انسانيا وفكريا وجماليا على الخشبة المسرحية»، يقول بوخليفة، مضيفا: «الحداثة لا تتعارض اطلاقا مع الموروث الثقافي اللامادي والمادي في تركيب عروض مسرحية ممتعة ترسخ مقومات ذاكرتنا على مدار الازمنة.. انا قصدت الحداثة المستنسخة الريعية والترقيعية التي لا تقوم على الإبحار بشكل جاد في التراث.. نستثني الفنون التشكيلية ويمكن ذكر المرحوم خدة محمد وباية ودنيس مارتيناز، مصطفى نجاي، والطاهر ومان.. الذين وظفوا التراث بكل محتوياته لتشكيل لوحات متميزة بالالوان ومقاطع جزائرية، ألوان شمسية متفتحة على طبيعة عادات وتقاليد بشر المنطقة.. المقاربة البدائية العفوية في الاشتغال على مادة التراث لا تنفع الخشبة المسرحية وهذا ما تفطن له المرحوم الصديق علولة عبد القادر في آخر ثلاثيته».
محمد الأمين بحري: التراث ليس مضادّا للحداثة
يرى الدكتور محمد الأمين بحري هذا الموضوع يبقى الصراع فيه بين تياري النقل والعقل حتى في الفن التمثيلي. ويذهب إلى أن كلمة تراث هنا كمصطلح وكثقافة مادية ولا مادية، ليس مضادًا للحداثة. وتساءل الناقد لماذا يظن الكثير من المسرحيين الجزائريين أن تقديم التراث مسرحياً يتم بطريقة تراثية، أي بوسائل لا تختلف عن طبيعة المادة التراثية الممسرحة؟
ويعتقد بحري أنه هنا بالتحديد يكمن دور استجلاب الطرائق المسرحية الغربية، وتقنياتها، من أجل تمثل التراث بطريقة راهنة للعصر، بمعنى أنه بالتحديث في المسرح التراثي، كمدارس وأساليب وخطابات، يمكن أن تبرز مكنون وخطاب الوجه التراثي لمختلف مناطق الثقافة وجغرافيتها بصورة أكثر بلاغة وتعبيرية.
ويضيف: «كم نحن بحاجة إلى تحديث وسائلنا ووسائطنا المسرحية، حتى المسرح الرقمي وأجهزة العرض والأساليب ما بعد الدرامية، من أجل مسرحة التراث الذي إن كان تراثي المحتوى فيجب ألا يبقى تراثيا على في شكله التعبيري على الخشبة.. فماذا قدمنا للتراث من وسائل حداثية لتمثيله؟ أم أنه محكوم على فكرة التراث المسرحية أن تبقى تراثية الشكل والمضمون في تمثلها الركحي؟
علاوة وهبي: التبعية مازالت سمة المسرح العربي
من جهته، رأى الناقد علاوة وهبي جروة أن البدايات المسرحية في البلاد العربية لم تكن بداية أصيلة، وعليه استمرت في غير أصالتها، رغم أن البعض من كتابها حاول الرجوع إلى التراث والأخذ منه أوتكييف ما يأخذه من الغرب بإلباسه لباس التراث العربي الاسلامي، وحتى تراث الأقليات الموزعة في البلاد العربية، وقد تم شيء من ذلك مع الرواد الأوائل في الحركة المسرحية الجزائرية باللجوء إلى حكايات جحا أوقصص ألف ايلة وليلة أوحكايات محلية، إنما هل يعني ذلك حقا أن ما يقدم بهذا اللباس هومسرح جزائري؟ ونفس الأمر في دول عربية أخرى. وأضاف وهبي: «أظن أنه إلى حد الآن لم نتوصل إلى إيجاد الشكل المسرحي الذي يمكننا القول إنه خاص بنا وليس له صلة بالغرب.. التبعية تقتل العرب في مجالات متعددة وليس في المسرح وحده».
مصطفى رمضاني: ثلاثة روافد لمواقف المسرحيين العرب من التراث
يقسم الأكاديمي المغربي مصطفى رمضاني موقف المبدعين المسرحيين العرب من التراث إلى ثلاث قراءات أساسية هي: القراءة الذاتية ويمثلها المسرحيون الأوائل مثل النقاس وشوقي وأباظة وغيرهم. وهي قراءة إسقاطية مباشرة. أما القراءة الثانية فهي التي يسميها رمضاني بالقراءة النقدية للتراث، ويمثلها المسرحيون التأصيليون الذين اعتقدوا أنه بمجرد استلهام أحداث التراث وشخصياته يمكن تحقيق عملية التأصيل. وهذا ما يسميه الجابري بقياس الشاهد على الغائب. أما القراءة الثالثة فهي القراءة المبدعة للتراث. وهي القراءة التي تستنطق البعد الرؤيوي الذي يوفره ذلك التراث. وتتجاوز هذه العملية التعامل مع الأحداث والشخصيات إلى استغلال ما يختزن ذلك التراث من أشكال جمالية، بما فيها تلك الصيغ التعبيرية التي تتوافر لها خاصية التمسرح. وهذا هوالمعول عليه في إشكالية التعامل مع التراث فيما اعتقد. فالتراث ليس معطى ثابتا وإنما يتجدد وفق الرؤى التي نضفيها عليه. فمواقفنا هي التي تحدد قيمته وليست أحداثه وشخصياته التي انتهت بانتهاء زمنها.