«إنّ الأزمة تلدُ الهمّة»... هكذا قيل في السابق، وهكذا نقول اليوم، في ظلّ هذا الوباء الذي يطال العديد من دول العالم... صحيح أنّ عبء الأزمة الصحيّة ثقيل، ولكن هذا لا يمنعها من أن تكون فرصة لمراجعة الذات، والسياسات... وإن نحن تحدّثنا عن الثقافة، فسنقول إن هذه الأزمة جعلت مَواطن القصور تطفو إلى السطح. وبغضّ النظري عمّا يحمله ذلك من سلبيات، فإنه يمكنّنا من التقييم... وبالتقييم يتأتّى التقويم، ويمكن تحويل نقاط الضعف، إلى نقاط قوّة وتفوّق.
ليست الأزمة الصحية التي تسبّب فيها فيروس كورونا المستجدّ، سوى صدمةٍ لم تأتِ، في حقيقة الأمر، بالشيء الجديد. هي مثل المرآة المكبّرة التي عكست التناقضات ونقاط الضعف التي يعرفها كلّ قطاع، ولكن بشكل مضخّم ومسرّع، وذلك بسبب الوضع الاستثنائي. وبالتالي، فإن أيّ قصور خلال هذه الأزمة يشهده قطاع من القطاعات، وإن كنّا نركّز هنا على قطاع الثقافة، هو في الحقيقة قصور سابق للأزمة الصحية، ولم تقم هذه الأخيرة إلّا بإبراز معالمه بشكل أوضح، ولعلّنا بذلك أمام فرصة حقيقية لتصليح أخطائنا وعيوبنا، خصوصا أن أولى خطوات التقويم هي تشخيص القصور وتحديد موطنه. وسنحاول، في هذه السانحة، اقتراح ستّ نقاط، يمكن تحويلها من خانة الضعف، إلى خانة القوّة.
قانون الفنان وتنظيم المهن في المجال الثقافي
لطالما تعالت الأصوات المندّدة بغياب قانون الفنان، وذلك على الرغم من المحاولات المتكررة لتنظيم المهن في قطاع الثقافة، والتي كان من بينها «بطاقة الفنان»، وما عرفته هذه الصيغة من استهجان أو استحسان.
في الرابع من أفريل الجاري، كتب سليم دادة، كاتب الدولة المكلف بالإنتاج الثقافي، يقول إنه حينما قدم استقالته من منصب رئيس المجلس الوطني للفنون والآداب يوم 24 مارس المنصرم، فقد كان ذلك من أجل هدفين: التفرغ لمهامه الوزارية، وفتح المجال لإطارات ثقافية وشخصيات فنية أخرى لترؤس المجلس. كما أكد أن استقالته من رئاسة المجلس لم ولن تمنعه من مواصلة العمل والتنسيق لتجسيد المشاريع المتعلقة بقانون وضعية الفنان وتفعيل بطاقة الهوية الفنية والمنصة الرقمية للمجلس الوطني، وهي المشاريع المسطرة لسنة 2020.
وبالحديث عن هذه النقاط الثلاثة التي أشار إليها دادة، فإن المجلس الوطني للفنون والآداب، الذي أوكلت إليه مهمة إصدار وتوزيع بطاقة الفنان، كان قد أعلن، شهر يناير المنصرم، تعليق إصدار بطاقات الفنان منذ بداية السنة، في انتظار بدء الإجراءات الجديدة التي أُعلن عنها شهر جوان من السنة الفارطة، والمتعلقة حيثيا بالمراحل المتبقية الثلاثة وهي: أولا، صدور نص القانون الذي ينقح المرسوم التنفيذي 11-209 وذلك للتأسيس القانوني للبطاقة والتي ستحمل اسم: «بطاقة الهوية الفنية» (وأكّد المجلس بأن هذا النص في المرحلة النهائية من الإجراءات)، والمرحلة الثانية وهي تطوير المنصة الرقمية لقاعدة البيانات لفتح باب التسجيل عبر الإنترنت على الموقع الرسمي للمجلس: www.cnal.dz (وقال المجلس حينها إنه قيد الإطلاق، ولكنه لم يدخل الخدمة بعد حسب ما لاحظناه حين كتابة هذا المقال)، والمرحلة الثالثة المتعلقة بانطلاق اختبارات الاستماع والمقابلات أمام لجنة المجلس للاعتراف بصفة فنان.
يمكن القول إن برنامج المجلس كان طموحا، بإطلاق مشروع «بطاقة الهوية الفنية»، واعتماد الشروط الجديدة لملف بطاقة الفنان، وشهدت السنة الماضية تحديد 179 مهنة فنية بين الفنون والحروف، مقسمة إلى 7 فئات (الموسيقى، الفنون البصرية، المسرح، الرقص، الفنون المسرحية، السينما، السمعي البصري والتحريك، الأدب). فيما بلغ إجمالي عدد بطاقات الفنان الموزعة 10919 بطاقة (باعتماد آخر حصيلة أعلنها المجلس).
ولكن السؤال حول تواصل هذا البرنامج، ثم مدى نجاعته حين التطبيق، يبقى تساؤلا مشروعا، ولعلّ الظروف الاستثنائية الحالية جعلت الفنانين يشعرون أكثر بوطأة هذا «الفراغ» وغياب قانون يحميهم. وحتى مع إطلاق الديوان الوطني لحقوق المؤلف لاستمارة يملؤها الفنان الراغب في الحصول على مساعدة مالية في هذه الظروف، تبقى هنالك أسئلة حول مدى نجاعة هذه الطريقة، وشروط الاستفادة، ومدى أحقية المستفيدين، ومدى شفافية العملية في حدّ ذاتها، والأهمّ من هذا وذاك: وجود طريقة «تحفظ ماء الوجه» أكثر للفنان المستحق للمساعدة.
تفعيل صناعة ثقافية حقيقية
في هذا الصدد، يمكن أن يكون إطلاق صناعة ثقافية بالمعنى الحقيقي للكلمة أفضل حماية لحقوق الفنانين، بحيث يضمن الحقوق المادية والمعنوية للفنان والمنتج والمستهلك معا. رغم أن البلاد تزخر بالمواهب المتفرّدة في شتى الفنون وأشكال الإبداع، إلا أن صناعة النجوم تبقى حلقة مفقودة، تحرم هذه المواهب من بيئة تمكينية تسمح لهم بتفجير قدراتهم.
كما نشير في هذه السانحة إلى دور النجوم الجزائريين العالميين الغائب تماما، في إطلاق مبادرات أو الترويج لمواهب جزائرية صاعدة، وهو ما تحدثنا عنه في أكثر من مناسبة. قد نرى لاعب كرة قدم يفتتح مدرسة كرة للأطفال، ولكننا لا نرى نجما واحدا من نجومنا من الفنانين العالميين يرعى، ولو شرفيا، مدرسة لتعليم الموسيقى... مجرّد ملاحظة عابرة.
التخلّص من المناسباتية والموسمية
إن حلول شهر رمضان الفضيل في عزّ هذه الأزمة الصحية العالمية، هو دون شكّ أمر مؤسف تنقبض له القلوب، ولكنه قد يكون في نفس الوقت فرصة لمراجعة «العادات السيئة» التي اكتسبها المشهد الثقافي الوطني، ومن ضمنها ارتباط الجزء الأكبر من الإنتاج الفني بشهر رمضان، وإهماله بقيّة السنة، وهو ما حذّرنا منه في أكثر من مناسبة.
صحيح أن لكلّ سوق في العالم مواسم يرتفع فيها الطلب وبالتالي يجب على العرض مواكبة هذا الارتفاع، ولكن أن يتركّز كل الإنتاج على شهر أو شهرين في السنة، فهذا أقرب إلى البطالة والكساد منه إلى العمل والإنتاج.
تقييم تجربة النشاطات الثقافية عن بُعد
فرضت الأزمة الصحية على مختلف القطاعات الاستنجاد بالشابكة، سواءً بالعمل عن بُعد، أو توفير الخدمات دون الإخلال بالتباعد الاجتماعي. ولم يحدْ قطاع الثقافة عن ذلك، حيث لجأت مختلف المؤسسات إلى بثّ فيديوهات ومسرحيات وأفلام، واستحداث نشاطات ومسابقات، ضمانا لاستمرارية الفعل الثقافي، المكفول دستوريا للمواطن.
نشير هنا إلى أن هذه التجربة جديرة بالتقييم بعد انقضاء الأزمة الصحية، بُغية الاستفادة منها، خاصة وأن التقنية تمكّن بسهولة من الحصول على أرقام وإحصائيات دقيقة حول الإقبال على مختلف النشاطات عن بُعد، ويجب أن تأخذ بعين الاعتبار مدى تغلغل واختراق الشابكة للمجتمع الجزائري؛ بمعنى مدى استعمال أنترنت، ومدى جودة خدمة أنترنت وما إذا كانت تمكّن من الاستغلال الأحسن للنشاطات عن بُعد، ومدى فعالية الترويج لهذه النشاطات الثقافية.
وبما أن هذه المبادرات جاءت في إطار استثنائي واستعجالي، ولم يتمّ التحضير والتخطيط لها بالشكل الكافي والفعال، فسيتطلب الأمر، في حال تقرير مواصلة الاعتماد على هذه النشاطات الثقافية التفاعلية، دراسة أحسن خصوصا من حيث الجمهور المستهدف، وطرائق الترويج ومضمون الرسالة، وغيرها.
إعادة الثقافة إلى مكانتها الأساسية في المجتمع
كثيرة هي العوامل التي أدّت إلى اهتزاز مكانة الثقافة وصورتها في المجتمع، وإسقاطها عمدا أو سهوا من قائمة الأولويات، وهو ما تجسّد أكثر في ظل شارية كورونا، بعد تعالت أصوات تنادي بغلق المسارح وقاعات السينما، على قلّتها، وتحويل ميزانية الثقافة إلى البحث العلمي.وإذا تراوحت الحجج في السابق بين الاقتصادية والاجتماعية تارة، والدينية والأخلاقية تارة أخرى، كانت الحجّة هذه المرة كون الأزمة الصحية أظهرت أن الثقافة لا أهمية لها في بناء الأمم ومواجهة الأزمات، وقد تبنّى هذا الطرح، للأسف الشديد، أساتذة جامعيون ودكاترة في تخصصاتهم، وتجرّأ بعضهم على ترديد هذا الكلام في قنوات التلفزيون، بما في ذلك طبيب متخصص استضافته إحدى القنوات الخاصة.
ولعلّ أصحاب هذا الرأي قد نسوا، أو تناسوا، أن ما يبذله الباحثون والأطبّاء من مجهود مضاعف، ووقوف في الصفوف الأولى في مواجهة الوباء، يهدف دون شكّ إلى إنقاذ حياة الناس، ولكنه يهدف أيضا إلى تمكين الناس من العودة إلى حياتهم الطبيعية، بما فيها من ثقافة، وفنون، ومسرح، وموسيقى، وكتاب.
ومن هنا يظهر جليّا أن مهمّة إعادة الثقافة إلى مكانتها الريادية في مشروع المجتمع هي مهمّة جماعية، تتعدّى الوزارة الوصية أو حتى وجوه الثقافة في بلادنا، إلى كلّ المشرفين على مختلف وسائل التنشئة الاجتماعية، من أجهزة الإعلام إلى المجتمع المدني والمدارس ودور العبادة، وقبل هذا وذاك، الأسرة التي هي الخلية الأساسية لتكوين المجتمع. كما بات ضروريا التصدّي لهذه الظاهرة بالدراسة العلمية المستفيضة، سواءً في علم الاجتماع أو غيره من العلوم ذات العلاقة.
سياسة ثقافية مدروسة وواضحة المعالم
كل المقترحات السابق ذكرها، لن يمكن تطبيقها على أرض الواقع إلا برسم سياسة ثقافية واضحة المعالم، تكون قابلة للتطبيق باختلاف الزمان والظروف والأشخاص، وتأخذ بعين الاعتبار مختلف السيناريوهات الممكنة. توجد كلمة يمكنها تلخيص هذه الخصائص، وهي «الاستراتيجية»، التي تساعدنا على استشراف الاحتياجات وتحديد الأهداف، وتحديد الإمكانيات اللازمة لبلوغ هذه الأهداف... وإذا كنا لا نعلم وجهتنا بالضبط، فإننا لن نعلم متى وكيف ننطلق.