تعتبر اليونسكو الثقافة ركيزة هامة للتنمية المستدامة، ما جعل جامعات عديدة في العالم تسطّر سياسات ثقافية خاصة بها، تتماهى والبيئة المحلية من جهة، والتنوع الثقافي لطلابها من جهة أخرى، خصوصا وأن الثقافة تسهم بشكل كبير في التقريب بين الطلاب القادمين من مشارب متعدّدة. بالمقابل، يؤدّي عدم التحكّم في مفهوم «الثقافة» إلى ضياع وضبابية نتيجته السقوط في السهولة والارتجال، وبدل أن تلعب الجامعة دورها كقاطرة لتقدّم المجتمع وتطوّره، تصير كابحا للمواهب ومشتّتا للطاقات الإبداعية.
يُحاول هذا المقال التطرق إلى حضور الثقافة داخل الجامعة، انطلاقا من الإطار القانوني والواقع المحلّي، وصولا إلى ما يمكن فعله، استئناسا بتجارب ورؤى عالمية.
«التنشيط الثقافي» في الجامعة الجزائرية
يُعتبر القرار رقم 44 المؤرخ في 13 جانفي 2019، الذي يحدّد كيفيات إنشاء النوادي العلمية وتنظيمها وسيرها لدى مؤسسات التعليم العالي، يُعتبر السند القانوني المنظم لهذا المجال في الجامعة الجزائرية. وجاء في هذا القرار، المتشكّل من 16 مادة، أن النادي العلمي يتمّ إنشاؤه «لغرض علمي أوثقافي محدد»، من قِبل «الطلبة الذين يتابعون تكوينا عاليا بصفة منتظمة في مؤسسة للتعليم العالي». لذلك تنص المادة السادسة على أن صفة العضوية في النادي العلمي تفقد بفقدان صفة الطالب لأي سبب من الأسباب، أو إثر انتهاء التكوين في نفس المؤسسة. ويحدّد هذا القرار مكونات الملف الواجب إيداعه، وينظم العلاقات بين النادي العلمي و»مسؤول المؤسسة» الجامعية.
أما على مستوى الدراسات العلمية المحكّمة، فقد ارتأينا أن نشير، على سبيل الذكر لا الحصر، إلى دراسة الدكتورين عمار شوشان ومحمد ختاش، المنشورة في العدد 12 من مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية، تحت عنوان «واقع ممارسة الأنشطة الطلابية بالجامعة الجزائرية، دراسة استكشافية بجامعة باتنة 1»، التي هدفت إلى التعرف على واقع ممارسة الطلاب للأنشطة الطلابية بأنواعها (الثقافي، العلمي، الرياضي، الاجتماعي، النقابي)، اعتمادا على استبيان شمل 400 طالب من الكليات الثمانية لجامعة باتنة 1.
وخلصت الدراسة إلى أن الأنشطة الطلابية تشهد عزوفا من قِبل الطلاب، «وقد يعود ذلك إلى النظرة السلبية منهم تجاهها من قبيل أنها مضيعة للوقت أو أنها ثانوية أو أن ممارسها يشغل عن الدراسة». وأن «لا فروق في هذه الممارسة تعزى للجنس، نظرا لكون الجميع يتقاسم نفس الظروف من نقص في الإمكانيات وعدم اهتمام الإدارة».
وأوصت الدراسة بضرورة الاهتمام أكثر بالأنشطة الطلابية في الجامعة، والعمل على تغيير النظرة السلبية إليها لدى الطلبة والإدارة والأولياء، وتنويع الأنشطة لاستقطاب أكبر عدد ممكن من الطلبة نظرا لاختلاف ميولهم واهتماماتهم وقدراتهم. ولعلّ الملاحظ في هذه الدراسة أنها اكتفت بتعريف مصطلح «النشاط الطلابي»، وتطرقت إلى النشاط الثقافي دون التحكّم في مفهوم «الثقافة»، وجمعت تحت مظلته عددا من النشاطات، ما يجعله أقرب إلى التنشيط والترفيه منه إلى قاعدة سياسة ثقافية مُحْكمة.
تسهم الثقافة بشكل كبير في التقريب بين الطلاب الآتين من خلفيات اجتماعية وثقافية مختلفة. وتجمع هذه المهمّة بين قطاعيْ الثقافة والتعليم العالي، مع إمكانية/ضرورة إشراك قطاعات عديدة أخرى.
وتعتبر اليونسكو أن «الثقافة ركيزة للتنمية المستدامة»، وهو ما تذهب إليه جامعات عالمية، على غرار جامعة «لافال» الكندية، حيث نشرت «لجنة الشؤون الطلابية» بهذه الجامعة قائلة إن الثقافة «يجب أن تكون حاملا للتماسك الاجتماعي والاستقرار وعنصرًا رئيسيًا في تكوين الطلاب»، لذلك «من الضروري تعزيز الثقافة كعامل للتنمية، ومحفز للصحة العقلية الجيدة وضمان نجاح الطلاب».
إعادة تعريف السياسات الثقافية
يقول بيير بازانتي، الأكاديمي الفرنسي المتخصص في الأدب، إنه طُرح عليه سؤال: «هل هناك نماذج للسياسة الثقافية للجامعة وما هي النماذج؟»، وأجاب بازانتي، في مقال بمجلة «لوبسيرفاتوار» المتخصصة في السياسات الثقافية، بالإشارة إلى وجود سياسة ثقافية داخل الجامعات ربما بعدد الجامعات، وفي نفس الوقت سياسة ثقافية شاملة.
كما أشار الدكتور بازانتي إلى عشر نقاط تتعلق بهذا الموضوع، في شكل أسئلة إشكالية: أولا، ما هو تأثير السياق الإقليمي؟ وهنا يُلاحظ أن حجم المدن له تأثير على السياسة الثقافية للجامعات. إذ يختلف الأمر بين ما يمكنك القيام به في عاصمة البلاد أو في مدينة داخلية. بالإضافة إلى النسبة بين عدد السكان وعدد الطلاب الذين يمكن أن يكون عددهم مرتفعا للغاية في مدن معينة.
ثانيا، ما هو تأثير التخصص للجامعات؟ إذ قد تكون هنالك فروق في السياسات الثقافية بين الجامعة «التقنية» وتلك الخاصة بالعلوم الإنسانية، والجامعات متعددة التخصصات حيث تختلط الثقافتان.
ثالثا، ما هي الخيارات المؤسسية الداخلية للجامعات؟ وهل هناك خدمة ثقافية داخل الجامعة أم لا؟ وهل يوجد مكتب للحياة الطلابية يمنح نفسه أيضًا الكفاءة الثقافية؟ وكيف يتم تنسيق وتمويل هاتين الوظيفتين الثقافيتين؟ رابعا، من هم حاملو السياسات الثقافية في المؤسسات الجامعية؟ هل هي رئاسة الجامعة؟ هل هناك مدير خدمة مركزية أو خدمة مشتركة بين الجامعات؟ وما هو دور هؤلاء في تحديد التوجهات الثقافية؟ وما هو دور الجمعيات والتنظيمات الطلابية في هذا التصميم؟
خامسا، ما هي طبيعة العلاقة بين التدريب والبحث والثقافة؟ إذ قد يكون هناك وحدات تعليمية ثقافية إلزامية في بعض الجامعات. كما يمكن أن يوجد رابط قوي بين البحث والثقافة. سادسا، يتساءل بازانتي عن دور الأستاذ الباحث في الحث على النشاط الثقافي، وهنا تكون العلاقة عمودية. أو قد تكون في شكل أفقي بين الطلاب أنفسهم. سابعا، ما درجة انخراط الجمعيات الطلابية في الحياة الثقافية للمؤسسات؟ وهل تسعى فقط إلى الحصول على إعانات مادية أم أنها تشارك في تحديد محاور هيكلة الحياة الثقافية؟
ثامنا، كيف يتم تطبيق قاعدة ثلاثية «الإنتاج، البرمجة، الممارسات» أوما يُعرف بـ:
؟
وهل تشجع الجامعات على إنتاج الأعمال الإبداعية كالعروض والأفلام والأعمال التشكيلية، أم أنها تركز مهماتها على تطوير الممارسات، أم الجمع بين العناصر الثلاثة؟
تاسعا، ما هي طبيعة العلاقة مع المؤسسات الثقافية الإقليمية والوطنية؟ ثمّ عاشرا وأخيرا، كيف تحدّد الجامعات معنى الثقافة؟ هل هو مفهوم في صيغة المفرد (ثقافة) أوالجمع (ثقافات)؟ هل هناك توترات أوتفاعلات بين الثقافات الشعبية والثقافات العالمة؟ هل يجب تصنيف الثقافات وفق سلّم معيّن؟
وخلص بازانتي إلى أن كل هذه العناصر تحدّد الوضع الثقافي لكل مؤسسة، ويجب أن تكون حاضرة في ذهن كلّ مسؤول ثقافي، لأن السياسات الثقافية يجب إعادة تحديدها وإعادة تعريفها باستمرار.
كلمات لا بدّ منها
إن حضور الثقافة داخل الجامعة يعكس بشكل كبير حضورها في المجتمع عموما، وهو ما يمكن اعتباره مجانبا للصواب ومنطق الأمور، لأن الجامعة يُفترض فيها أن تكون قاطرة المجتمع وحاضنة للطليعة، دون أن نغفل أن السياسة الثقافية في الجامعة يُفترض أيضا أن تكون استمرارا للتربية الفنية في أطوار التعليم الأساسي. بالمقابل، لم تنتجْ الجامعة دراسات تساعد على رسم الخطوط العريضة لسياسة/سياسات ثقافية سواءً لها أو للمجتمع، ولم تساهم في تحديد المفاهيم، وعلى رأسها مفهوم «الثقافة»، واكتفت النصوص القانونية بتنظيم «تنشيط ثقافي» يتداخل (عن قصد أوعن غير قصد) مع التنشيط العلمي والرياضي وحتى الترفيهي في الجامعة.
من أجل ذلك، فإن الحديث عن حضور الثقافة داخل الجامعة سيكون قاصرا بشكل كبير، في حال عدم تحديد مفهوم «الثقافة»، ولا يقتصر ذلك على التعليم العالي بل يصل إلى الوزارة الوصية على قطاع الثقافة، فكيف يمكن لنا أن نسطّر سياسات ثقافية ونحن نجهل ماهية الثقافة؟
إن هذه الضبابية وهذا القصور في الجانب المفاهيمي يجعل من ضعف/انعدام الرهان على الثقافة مجرّد تحصيل حاصل، لأنه بذلك لا يكون المشكل هو التقصير في الاهتمام بالثقافة، بل القصور في فهمها والجهل بتعريفها من أجل تطبيقها، ولمّا يأتي ذلك من الجامعة، التي يُفترض بها بناء الأسس المفاهيمية، فإن هذا الجهل يصير إذ ذاك جهلا مركّبا، وتلك هي المعضلة الحقيقية.