يقف الشعر الشعبي الملحون والموروث الثقافي الجزائري ككل في مفترق طرق، ويعيش حالة من الركود والتراجع تدريجيا عن الساحة الثقافية الجزائرية بسبب نقص الاهتمام من طرف المؤسسات الثقافية، رغم محاولات بعض الباحثين والأكاديميين جمع هذه المادة وتدوينها لحمايتها من الاندثار، في وقت دخل فيه كل من الشاعر، كاتب الكلمات والفنان الملحن، حلبة صراع وتهم متبادلة بين الأطراف حول مسؤولية من يتحمل هذا التقصير ما بين ظاهرة الانتقاء لدى الفنان، وطبيعة ومستوى ما يقدم من كتابات لدى الشاعر...
حاولنا، انطلاقا من هذا الاستطلاع الميداني، جس نبض الساحة الشعرية بولاية بومرداس، التي تملك وجوها عديدة وأقلاما متميزة في هذا النوع من الكتابة الشعرية، منها ما هو معروف ومنها من يبقى في طي النسيان. كما أن الولاية مافتئت تنظم ندوات وملتقيات وطنية للتعريف بالموروث الشعبي، كان آخرها الملتقى الوطني الذي احتضنته دار الثقافة “رشيد ميموني” لدراسة ومناقشة واقع الموروث الشعبي وسبل حمايته وتدوينه. كما أردنا أيضا إشراك فاعلين رئيسيين في ساحة الشعر الشعبي والملحون، هما كاتب الكلمات الذي يحاول تقديم أعمال وأشعار في الغالب لم تصل إلى دائرة النقد والتنقيح لمعرفة قوة متنها ومستواها نتيجة الوضع الثقافي الذي تعيشه ولاية بومرداس، وفنان متهم بالقفز على الواقع والغوص في العمق التاريخي للشعر الملحون لإعادة تلحين وأداء بعض القصائد المشهورة مثل “حيزية” من أجل اختزال المسافة لكن على حساب المبدعين الشباب الذين يكتبون ويحاولون تقديم إبداعات، لكنها لم تجد طريقها إلى هذا الفنان الذي كان عليه من المفروض أيضا ترقية هذه القصيدة وإعطاؤها بعدا فنيا وجماليا عن طريق اللحن والأداء.
الشاعر سعيد باكور.. انتقائية الفنانين لا تخدم إبداعات الشباب
اتهم الشاعر سعيد باكور، المتخصص في الشعر الشعبي الملحون، بعض الفنانين بالتقصير والانتقائية في التعامل مع النصوص الشعرية المعروضة على الساحة الإبداعية قائلا: “الشاعر في وادٍ والفنان في واد آخر.. هناك بعض الفنانين لا يحبّون القصيدة التي تحمل مضامين شعرية عميقة وتعالج قضايا اجتماعية هادفة إلى الإصلاح، بل إن النظرة التجارية السريعة وغياب روح الإبداع، جعلت الفنانين يلجأون إلى قصائد التراث المشهورة لاختزال الوقت والبحث عن الشهرة عبر أقرب مسلك دون مجهود، وعلى حساب المبدعين الشباب الذين يبحثون عن فضاءات وقنوات للتعريف بأعمالهم الفنية والمساهمة ولو بقسط ضئيل في ترقية التراث الشعبي وحمايته من كل أشكال التجاوزات..
الفنان محمد راوي... غربال لجان القراءة موقفٌ إجباري لتحقيق الجودة
على عكس ما ذهب إليه الشاعر سعيد باكور، أكد الفنان الشعبي محمد راوي في حديثه لـ«الشعب”، أن الفنان غالبا ما ينتقي أعماله الفنية ويختار بعناية القصيدة التي تحمل بعداً فنّيا ويمكن تلحينها إلى أغنية يؤديها الفنان، ولا يعمل بطريقة عبثية دون معايير فنية وجمالية للقصيدة، وبالتالي فإن المسؤولية، في رأي محمد راوي، لا يتحملها الفنان لوحده، بل الكلّ مشارك في هذه الوضعية التي يعيشها الشعر الشعبي الملحون في الجزائر وبومرداس بالخصوص.
وعن أسباب الهوة بين الطرفين، قال محمد راوي إن غياب الفضاءات الثقافية ونادٍ للفنانين ببومرداس، ساهم كثيرا في تغذية هذه الوضعية نتيجة قلة الاحتكاك وعدم التواصل وحتى معرفة طرف لطرف آخر، وعليه اقترح محمد الراوي على المبدعين الشباب في المجال الشعري، بذل مزيد من المجهودات والتضحية للتعريف بأعمالهم الفنية، لأنه من غير الممكن أن يلجأ فنان للعمل على قصيدة دون أن تمر على غربال لجان القراءة والنقد لمعرفة مدى إمكانية ترجمتها إلى أغنية، مثلما قال..
عبد القادر حدوش.. ليس كل قصيدة قابلة للتلحين
حاول الشاعر وعضو النقابة الوطنية للفنانين الجزائريين، عبد القادر حدوش، إمساك العصا من الوسط وعدم إغضاب أيّ من الطرفين، من خلال محاولته الغوص في أعماق وتاريخ الموروث الشعبي وقصيدة الملحون بالخصوص والرابطة التي تجمع بين الأغنية البدوية وأغنية الشعبي، مذكرا بفضل بعض الشعراء المعروفين كـ«لخضر بن خلوف وبن مسايب، مصطفى بن براهم وبن تريكي”، وبعض مغنيي الأغنية البدوية كالشيخ حمادة، وصولا إلى أحمد وهبي، ثم مرحلة التحول إلى أغنية الشعبي بفضل بودالي سفير والعنقى بعد إدخال الآلات الموسيقية العصرية...
كما اعترف الشاعر عبد القادر حدوش، بأن قصيدة الشعبي والموروث الثقافي ككل يعاني من بعض التقصير ونقص الاهتمام، رغم المجهودات التي تقوم بها المؤسسات الرسمية، منها الديوان الوطني لحقوق التأليف والحقوق المجاورة لحماية هذا الموروث من كل أشكال القرصنة والتجاوزات القانونية.
وعن إشكالية الصراع الخفي بين الفنان والشاعر، أكد عبد القادر حدوش أن التقصير متبادل بين الطرفين، مرجعا ذلك إلى غياب فضاءات الاحتكاك ببومرداس، كما حاول الإشارة إلى شيء مهم كذلك، يتعلق بطبيعة القصيدة الشعرية في هذا النوع من الشعر الشعبي، التي لابد أن تخضع للقافية والوزن في تركيبة جمالية تسمح لها بإمكانية التلحين، في حين هناك قصائد عبارة عن نثر لا يمكن تلحينها وبالتالي على الشعراء والمبدعين الشباب بذل مزيد الجهد، والاحتكاك مع النقاد لتقييم أعمالهم الفنية وعدم البقاء بعيدا على الساحة ونقد الآخر، دون أن يخفي كذلك عتابه الموجه لبعض الفنانين الذين يؤدون قصائد تعود إلى 1700 سنة خلت على حد قوله.
الأكاديمية غمراسي مليكة.. حلقة مفقودة في إشكالية الموروث الذي يعاني من النظرة الاحتقارية
كشفت الأكاديمية والأستاذة الجامعية المتخصصة في علم اللسان، الأستاذة غمراسي مليكة، عن وجود نظرة احتقارية لهذا النوع من الموروث الشعبي، رغم أهميته التاريخية والحضارية في الثقافة الجزائرية. وقالت الأكاديمية في هذا الخصوص، هناك حلقة مفقودة في كل هذه الإشكالية المطروحة حول واقع الموروث الشعبي الجزائري، فالجامعة تحاول بذل مجهود في هذا المجال من خلال بعض الدراسات والأبحاث المقدمة، ويمكن ملاحظة أن وسائل الإعلام، خاصة السمعية البصرية منها، لا تقوم بدورها في هذا المجال، بل إنها ظلمت الموروث الشعبي من خلال التركيز على أغنية واحدة أو اثنتين مشهورتين في التاريخ ولا تحاول تناول كل أشكال هذا الموروث.
وعن تجربتها الميدانية في هذا المجال وكيف تنظر إلى واقع الشعر الشعبي والملحون، كشفت الباحثة غمراسي أنها شاركت في عديد الملتقيات المتعلقة بالشعر الشعبي الملحون، كان آخرها ملتقى عيسى الجرموني بولاية أم البواقي، حيث تفاجأت بالتراث الكبير لهذا الشاعر والفنان الكبير، أغلبه لا يزال دون جمع وتدوين، وبالتالي تقول الأستاذة إن هناك عملاً كبيراً ومجهودات جبارة تنتظر الباحثين والمهتمين بهذا النوع من الإبداع لجمع التراث الشعبي وتنقيحه، داعية المؤسسات الثقافية والفكرية إلى العمل على هذا الملف والتنسيق مع باقي الهيئات الفكرية والأكاديمية وعدم جعل من دور الثقافة فضاءات للنشاطات الموسمية والترفيهية على حساب بعض الموضوعات الجادة التي تستحق العناء والاهتمام.