االجامعي نبيل حاجي:

النّقد السّينمائي عملية إبداعية رصينة تكرّس حرية التّعبير والفكر

حاوره: أسامة إفراح

مهنة نبيلة لا يمكن أن تسرقها من أحد ولا يمكن أن تتحكّم فيها في ساعات

يرى النّاقد السينمائي نبيل حاجي أن النقد الفني لا ينمو وينتشر بدون نخب وحياة ثقافية وفنية منتجة، ولا يمكن له أن يرتقي في غياب حرية التعبير والفكر. والنقد السينمائي حسبه متميز تميز السينما ذاتها، وعملية إبداعية لا تقل أهمية عن العمل السينمائي، والناقد وسيط حقيقي في فهم وتحبيب السينما للمشاهد بعيدا عن النبش في عثرات المخرج..أما النقد السينمائي الجزائري فيعاني حالة مرضيّة يجب علاجها.

 «الشعب»: ونحن نحتفل باليوم العالمي للفن المصادف لـ15 أفريل من كل سنة..كيف يساهم النقد الفني عموما والسينمائي خصوصا في ترقية الأداء والذائقة الفنية؟
 نبيل حاجي: المتعارف عليه أن النقد الفني عموما بما فيه الأدبي، هو حركة تواكب وترافق النتاج الفكري والإبداعي والفني للشعوب والأمم، وهو الذي يؤسّس لحراك حقيقي ينسجم مع التحولات الاجتماعية والفكرية للمجتمعات وسط فضائها الإقليمي والعالمي، والنقد أيضا هو الذي يكشف ويمحص في بنية العمل ويصحح العلاقات المرغوبة بين المبدع والمتلقي ويراقب التحولات الإبداعية وامتداداتها في الزمان والمكان. النقد الفني لا يمكنه أن ينمو وينتشر بدون حياة ثقافية وفنية حقيقية منتجة ومتجددة ومنسجمة، ولا يمكنه أن يكون بمعزل عن النخب المبدعة في علاقتها بالمتلقي والمستهلك، ولا يمكن أن يرتقي النقد الفني في غياب حرية للتعبير والفكر.. وعليه فإن وجود النقد الفني وسط هذا المناخ الإيجابي والمتفاعل بإمكانه الرقي بالثقافة العامة في التعاطي وتلقي الفن وينتج حالات فنية مفعمة ومتناغمة مع حياة الناس وعلاقتها بالفنون على اختلاف مشاربها.
ويشكّل النقد السينمائي حالة خاصة مرتبطة بحيوية وحراك النخب السينمائية في عملية التجديد والبحث من جهة وعلاقتها بفضاء العرض (القاعة) الذي يمنح مساحات الفرجة المنوعة (أفلام وطنية وأخرى أجنبية) ومدى تجاوب الجماهير مع ما يعرض، وأخيرا، تشكل وسائل الإعلام الجماهيرية وسيط حقيقي وفعال في خلق حيوية المشاهدة والتفاعل وتحفيز الحوار حول وعن المنجز الفني.     
 باعتبار أنّ السينما يجتمع فيها عديد الفنون الأخرى..بماذا يمتاز النقد السينمائي عن غيره؟ وهل يجوز القول إنّه أشمل وأوسع؟
** ينفرد النقد السينمائي عن بقية أشكال النقد الفني، لحيوية الفن السابع كفن جماهيري بامتياز وارتبط بعوالم الترفيه منذ البداية، وتحوّل منذ أكثر من أربعة عقود إلى صناعة قائمة بذاتها ضمن أهم أشكال الصناعة الثقافية والترفيهية، كما أن السينما وهي تجمع أشكالا فنية مختلفة وتستلهم من بقية الفنون وحتى العلوم في تقديمها لطبختها الفرجوية، جعلت منها فنا جامعا يتناغم مع روح الفرجة الجماعية في القاعات، ناهيك عن المساحات السحرية التي تذهب إليها الأفلام بفضل الصورة وجماليتها، هذا بالإضافة إلى بقية العناصر الأخرى وعلى رأسها جمال ووسامة نجوم ونجمات الأعمال المقدمة..وتنوع الأشكال الفنية (أفلام كوميدية، موسيقية، غنائية، الخيال العلمي والرعب...).
يأتي النقد السينمائي هنا ضمن كل هذه السياقات وهذا الزخم، ويتطور ويرتقي وفق العلاقة الثنائية بين العمل السينمائي والجمهور، وهنا لابد أن نميز بين المتابعات الإعلامية والخبرية التي تواكب صدور الأفلام وخاصة منها التجارية (الأمريكية والهندية مثلا...) وأخبار النجوم والمهرجانات، وبين الكتابات النقدية حول وعن الأعمال الفيلمية الجادة والمؤسسة على أفكار وتطلعات فنية وجمالية، التي تتطلب أدوات خاصة في العملية النقدية بعيدا عن الآنية من جهة، وعميقة تغوص في تشكلات العمل السينمائي ووجهات نظر صاحبه (المخرج) الفكرية الأيدولوجية ومرجعيتها السينمائية. هذا لا يلغي أن النقد السينمائي لا ينعزل عن بقية التطلعات الفنية والجمالية التي نجدها في بقية الآداب والفنون من مسرح وشعر وفنون ركحية ضمن منظومة الإنتاج الإبداعي في البلد، كما تلعب اللغة دورا أساسيا في تشكل معالم النقد السينمائي وطبيعة الوسيلة الإعلامية التي ينشر فيها والجمهور المستهدف.. وفي الأخير، فإن النقد عموما هو وجهة نظر صاحبها تجاه العمل الفني وفق أدواته وحساسيته الفنية.    
 إلى جانب التّكوين الأكاديمي..ما هي الملكات الذّاتية والمواهب التي يجب أن تتوفّر في النّاقد السّينمائي؟
** حقيقة هناك العديد من البلدان التي فيها معاهد أو أقسام للتكوين في مجال النقد الفني عموما والسينمائي بالأخص وفق أطر علمية وبيداغوجية محددة ومتعارف عليها، لكن موهبة وسعة خيال وثقافة ومشارب معارف الناقد تلعب دورا مهما في حيوية وخصوصية وتفرّد ممارسته النقدية السينمائية، النقد السينمائي في اعتقادي (كما في بقية الفنون الأخرى) ليس مهنة، فهناك من يمتهنها حبا في السينما قادما إليها من عوالم مختلفة كالصحافة مثلا أو من نوادي السينما أو حتى من ممارسته لمهنة السينما ذاتها، وعليه فأعتقد أن هناك الموهبة والثقافة العامة فنيا وفكريا وسياسيا، ثم هناك الممارسة الدائمة والحساسية الفنية تجاه العمل السينمائي.
يوجد الكثير من الكتابات والمؤلفات حول النقد السينمائي وهوية ومهام الناقد السينمائي في العالم، لكن من وجهة نظري، لابد أن يكون الناقد واسع الثقافة، ملمّا بتاريخ السينما وتياراتها واتجاهاتها وروادها، ناهيك عن معرفة رصينة باللغة السينمائية من الناحية التقنية والجمالية والفكرية، وأخيرا اطلاع واسع على بقية الفنون والآداب وخاصة منها الأدب والمسرح والموسيقى.
النقد السينمائي هو تمرين دائم مؤجج بالشغف وحب السينما، مواكب ومتابع لتحولاتها في الزمان والمكان وعلاقتها بالمتلقي وبمسار السينما في امتدادها المحلي والعالمي، والناقد في اعتقادي هو وسيط حقيقي في فهم وتحبيب السينما للمشاهد بعيدا عن البحث والنبش في تعثرات المخرج وأخطائه، النقد السينمائي هو عملية إبداعية متفرّدة لا تقل أهمية عن العمل الفيلمي المتطرق إليه.
على ذكر التّكوين..هل نملك على المستوى الوطني معاهد متخصّصة في النّقد السّينمائي؟ وكيف يؤثّر ذلك على المشهد العام؟
مع الأسف الشديد، باستثناء تجربة النقد المسرحي في معهد برج الكيفان (...)، وفروع للنقد السينمائي في عدد من الجامعات (سيدي بلعباس، مستغانم ووهران) ليس هناك حسب علمي تكوين أكاديمي حقيقي في مجال النقد السينمائي الذي يسهم في الرقي بالمنجز السينمائي الوطني، وأغلب ما يتحقق إلى غاية هذه اللحظة مجموعة دراسات علمية أو أكاديمية لطلبة هذه الأقسام التي تبقى حبيسة الجامعة أو عدد من الدوريات العلمية، وهذا لا يمكن أن نضعه في خانة النقد السينمائي وإنما ضمن العمل الأكاديمي الذي يقف بالتحليل والنقد وفق مناهج علمية الأعمال السينمائية.
هناك أقلام جادّة في الجزائر، إذا أتيحت لها الفرصة بإمكانها أن تسهم في إثراء المشهد الإعلامي بنصوص نقدية حول السينما، لكن كما قلت في البداية، في ظل غياب ديناميكية حقيقية متعلقة بالإنتاج والتوزيع والعرض السينمائي تبقى كل المحاولات فردية ومحدودة، تطفو هنا وهناك سواء في الصحف أو المواقع والإصدارات أجنبية.
أعتقد أنه من الضروري والواجب اليوم أن تتخصص بعض الأقلام أو أن تسهم في إحياء التجربة النقدية في بلادنا، التي عرفت أسماء مهمة ومتميزة خلال عقود ماضية، وأن تواكب المنجز السينمائي الوطني على قلّته، للإسهام في رصد هذه التجارب ومرافقتها بالقراءة والتحليل وتقريبها من المتلقي.
ماذا عن «فوضى النّقد»؟ هل يجوز لأي مهتم بالسينما بما في ذلك الصّحفي أن يتقمّص دور النّاقد؟
** حقيقة نحن نعيش اليوم حالة من الفوضى، نتيجة تعدد ودمقرطة وسائل الإعلام والنشر وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي والأنترنت، وما أفرزته من حالات تقترب أكثر إلى الانطباعات الساخنة والسريعة غير المؤسسة في الكثير من الحالات، ونزعات ذاتية تفتقر إلى الرؤية وأدوات الكتابة النقدية.
وجود مثل هذه الفضاءات الافتراضية وغياب تقاليد ممارسة نقدية رصينة (غياب مجلة سينمائية في الجزائر مثلا) ساهمت في ظهور منتحلي صفة الناقد عندنا..كما أن الظاهرة موجودة أيضا في الكثير من البلدان العربية وحتى الغربية.
هنا، لابد أن نفرّق هنا بين الصحفي أو الإعلامي المتابع للشأن السينمائي، والناقد المتخصص والمتمرس المداوم والمحترف بكل أدواته، لكن أعتقد أن غياب حراك سينمائي حقيقي وحوار بين النخب ومناقشات الأفلام، يمنح السلطة النقدية من لا سلطة له، ناهيك عن غياب جمعيات أو تنظيمات تجمع محترفي الكتابة النقدية مثلما هو موجود في عدد من البلدان.
في الحالة الجزائرية، نحن نعيش حالة حرمان حقيقي، وعبث لا يخص الشأن الثقافي فقط وإنما نجده في مجالات عدة والكثير من ينتحل صفة المحل السياسي والأمني والخبير الاقتصادي.
النقد السينمائي كتابة رصينة بعيدة عن تصفية الحسابات والمصالح الضيقة، هي صوت مؤسس لحوار حقيقي حول الصورة والسينما وهي جزء أساسي من عجلة الإبداعي مرافقا ومقوما، وفي الأخير هي مهنة نبيلة لا يمكن أن تسرقها من أحد ولا يمكن أن تتحكم فيها في ساعات.    
باعتبارك مثّلت الجزائر كناقد في عديد التظاهرات الدولية..كيف يمكن تقييم حضور النقد الفني الجزائري في المحافل والتظاهرات العالمية؟ وما هي خارطة الطريق التي تقترحها لخلق مدرسة نقدية مؤثرة داخل الوطن وخارجه؟
 أولا نحن وبحكم أننا لا نروّج لثقافتنا خارجيا (ولا داخليا) ولا نحتفي بمبدعينا ولا نعزّز حضورهم المحلي والإقليمي، ونعاني من ظاهرة الإقصاء والتهميش، ونحارب المتميز مع الأسف، يبقى تمثيلنا هزيلا وربما نادرا في المحافل الدولية والمواعيد الفنية والسينمائية، بسبب قلة منتوجنا وعدم قدرتنا، رغم الاختلافات، على تشكيل قوى وتكتلات تعزز حضورنا الدولي وتفرض منجزنا الثقافي في هذه المواعيد.
بكل هذا وأمور أخرى، لا يمكننا اليوم أن نتحدّث عن خلق مدرسة أو اتجاه نقدي مؤثر لا محليا ولا دوليا، ومن أجل الخروج من هذه الحالة المرضية، أعتقد أنه من الواجب علينا أولا التخلص من أمراضنا النفسية والحسابات الضيقة وجلد الذات وتدمير الآخر، والارتقاء أخلاقيا وفكريا وإبداعيا، ثم العمل على التخصص وتثمين أسمائنا وإنجازاتنا محليا بعيدا عن «الشللية» و»مرتزقة الإعلام» ومحبّي الظهور ومنتحلي الوظائف والصفات..والتكتل في تنظيمات مهنية متخصصة تبرز فيها القدرات الحقيقية والأصوات المبدعة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19634

العدد 19634

الأربعاء 27 نوفمبر 2024
العدد 19633

العدد 19633

الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024
العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024