نتطرّق من خلال هذا الحوار مع الفنانة التشكيلية صورية قريشي خرّيجة الفنون الجميلة بالعاصمة اختصاص رسم زيتي وأستاذة الفنون التشكيلية بالمعهد الوطني للتكوين العالي بورقلة، إلى أهم أسباب العزوف عن الاهتمام بالفن التشكيلي بالجزائر، وأبرز السبل الممكنة لاسترجاع هذا الفن مجده السابق.
❊ الشعب: بعد أن كان الفن التشكيلي من بين الفنون التي سجل عصرها الذهبي في الجزائر أسماء وأعمال خلّدها التاريخ، وهلّل لإبداعها العالم يبدو من الواضح أن هناك تراجعا في الاهتمام به، لماذا برأيك؟
❊❊ صورية قريشي: الفن التشكيلي أو أي فن من الفنون في بلد ما ينهض أو ينحط حسب بوصلة التنمية في تلك البلاد، أي هو انعكاس للتنمية فيه وهذا طبيعي، خاصة أن الجزائر مرت بظروف صعبة جدا خاصة في فترة التسعينات ممّا دفع بالكثير من الأدمغة والمبدعين إلى الهجرة، بالإضافة إلى تحول اهتمام وأولويات العامة نحو الجانب الأمني وتوفير الغذاء من جهة أخرى، وهذا ترك تداعيات على جميع الأوجه من بينها الثقافي والتربوي والاجتماعي..لست محلّلة ولكنه استنباط قد أراه من بين أهم المبررات.
وربما يعود ذلك أيضا إلى تهميش التكوين الفني بصفة عامة انطلاقا من الأطوار التعليمية الابتدائية التي لا تعطي اهتماما لمقياس التربية الفنية، ولا تولي لها اعتبارا وهذا ما يولد تقزيما للفن عموما في نفوس الناشئة، وهو ما يبرر كذلك العزوف عن الالتحاق بمدارس الفنون الجميلة.
بالإضافة إلى ذلك أرى شخصيا أن من بين الصّعوبات التي يواجهها مسار الفن التشكيلي في الوقت الحالي، هو أن هناك القليل من الفنانين التشكيليين الأكاديميين الذين يحملون أفكارا إبداعية من شأنها أن تمثّل هذا الفن على حقيقته، خاصة في ظل وجود الكثير من المتكلّمين باسم الفن التشكيلي.
كيف ساعدت أسماء جزائرية نحتت اسمها في عالم الفن التشكيلي بحروف من ذهب في إخراج هذا الفن من حدوده الجغرافية؟
بالنسبة لمسيرة الفن في الجزائر منذ بداية الاستقلال إلى يومنا هذا عرف منحناه ارتفاعا وانخفاضا، ولعل من بين أهم الأسماء البارزة بين الفنانين الجزائريين الذين كان لهم أسلوب متميز ويمكن اعتبارهم مدرسة بحد ذاتهم محمد خدة ومحمد إسياخم ومحمد راسم وباية محيي الدين كعيّنة أسماء راسخة وصلت إلى العالمية مع أسماء أخرى كثيرة أعطت الوجه المنير للفن في الجزائر.
الفنان الجزائري بمختلف مشاربه الثقافية والاجتماعية هو وليد بيئته، والجزائر تزخر بتنوع بيئي ملهم نجد الساحل والجبل والريف والهضاب والصحراء، كل هذا التنوع أنتج تنوعا أيضا في الفن الجزائري ولا تغيب بصمة بيئته في عمله الفني، عندما أتكلم عن الفنان الجزائري أتكلم عن النموذجي الغيور عن الفن والغيور عن وطنه، والذي تتجسد في داخله روح الإنسان الفنان بأتم معنى الكلمة.
ولعل من أبرز الفنانين المحليين الذين كتبوا ووثقوا لهذا الفن في الجزائر الأستاذ الفنان إبراهيم مردوخ في كتابه «مسيرة الفن التشكيلي بالجزائر، والذي أعطى صورة واضحة عن الفن التشكيلي في الجزائر منذ نشأته. من جهة أخرى، نجد في الميدان فنانين عصاميين وآخرين خريجي مدارس فنون جميلة، وهذا في حد ذاته مكسب كبير، رغم أن البعض حوّله إلى صراع أجوف عقيم فبدل الاهتمام بالجوهر الذي يعكس صورة الفن تم تحويله إلى حلبة صراع فكري لن يساهم إلا في عرقلة المسيرة.
رغم أن الفن التشكيلي يعد فنّا جميلا ويمكن للعام والخاص أن يكون جمهورا ذوّاقا لهذا الفن، إلا أن معارض الفنون التشكيلية لا تستقطب في أحيان كثيرة سوى القليل من الهواة ومحبي هذا النوع من الفنون فقط، ما الأسباب وراء ذلك؟
العزوف عن الفن التشكيلي هو كالعزوف عن الكتاب وغيره من الأشكال الفنية الأخرى، القالب واحد وهو الثقافة، كذلك هي معارض الفن التشكيلي أصبحت فقط من اهتمام قلة ممّن يهتمون بالحراك الثقافي، كما أن المحيط والمكان الذي تقام فيه المعارض يلعب دورا كبيرا من جهة. ومن جهة أخرى العزوف يرجع إلى نشر ثقافة الفن والتربية الفنية في الناشئة بمدارسنا، ناهيك عن انعدام تدريسها في الكثير من الجهات، فمن أين يكتسب الطفل ثقافة التردد على المعارض إن لم ترسخ لديه من المدرسة وقبلها في الأسرة، مع ذلك أؤكد أن الارتقاء بالفن التشكيلي الجزائر ممكن جدا بالنظر إلى الطاقات والمقومات الموجودة، وكذا الموروث الثقافي الغني الذي تكتنزه.
ما الذي تحتاجه الساحة اليوم من أجل تكريس ثقافة حب الاطلاع على الأعمال التشكيلية لدى الجمهور المحلي؟
التواصل والتفتح على الغير هو من بين أهم الأمور التي تساعد على تكريس ثقافة الاطلاع، لأن الذي لم تفتح له نافذة على غيره يبقى حبيس نفسه وما رأت عينه من محيط ضيق المعالم.
والانفتاح الذي أقصده هنا هو أن يطلع الفرد منذ نشأته على ثقافات الغير وهو مشبّع بثقافته الأصيلة التي تجعله ممثلا رسميا لها، وهي التي يتخذ منها بصمة لأعماله إن لم نقل ترويجا لمكتسباته الأصيلة بلغات يفهمها الغير. ما نحتاجه اليوم هو التركيز على تلقين الطفل منذ صغره حب الفن والفنانين لأن حب الشيء يجعلنا ندافع عنه.
كيف السّبيل لكي يسترجع هذا الفن مجده السّابق؟
❊❊ في الحقيقة السّبل كثيرة وتتطلّب عزيمة كبيرة، إلا أنه ولإعادة وجه الفن الصبوح ينبغي علينا أن نعيد النظر في المنظومة الثقافية والتربوية لأن النهوض بثقافة الأجيال القادمة تبدأ من اهتمامنا بثقافة الناشئة.
التربية الفنية والثقافة الفنية يجب أن نوليها حرصا وعناية واهتماما خاصا داخل مدارسنا على الأقل بالقدر الذي يحفظ ماء وجهها، ومن ثمّة سنجني ثمرة جيل مهتم بالفن وصورة المجتمع المثقف الواعي هي من تكفل ذلك، لذلك فالعملية هي عملية نهوض شاملة وتستدعي وجود نخبة مثقفة فاعلة لنشر الوعي في الوسط المجتمعي.
أعتقد أنّه لابد من التفكير جديا في تكريم الفنان وإعطائه المكانة الحقيقية التي تليق به في المجتمع، وعدم إقصائه في عملية البناء العام لهذا المجتمع وكذا إعادة النظر في برامج التكوين في المدارس الفنية أو في المراكز والمؤسسات الشبانية من أجل بناء جيل قادر على تحريك عجلة النهوض بهذا الفن، ومواكبته لسير الركب المتطور الذي يشهده عبر العالم.