يحل اليوم العالمي للشغل في ظرف اقتصادي واجتماعي يبعث على الارتياح، غير أنه يكون مناسبة مواتية ليبادر الشركاء بمراجعة تقييمية لمنظومة العمل التي تعرف انتعاشا ويعول عليها في استيعاب الحجم الكبير للطلب على الشغل. بالنظر للمؤشرات الكلية فإن الوضع مستقر ويبقى كذلك على المدى القريب، إلا أنه يفرض إعادة صياغة الخيارات من خلال إدماج كافة الأطراف في مسار تسطير المستقبل على أساس جعل المؤسسة الاقتصادية القاطرة التي يمكن الاعتماد عليها لضمان الانتقال إلى مستوى متقدم في محيط إقليمي وعالمي لا مجال فيه للتردد أو التعثر، وذلك بالتركيز على رد الاعتبار لقيمة العمل كمولد للإنتاجية.
تعد الجزائر واحدة من الدول القلائل التي لم تتأثر مباشرة بتداعيات الأزمة المالية العالمية، أو المد “العنفي” في إطار ما بات يعرف بالربيع العربي وانعكاسات الاحتجاجات الشعبية على التشغيل والبطالة التي شهدت مستويات قياسية، ليس في العالم العربي فحسب بل امتد لهيبها إلى العالم الغربي وبالتحديد أوربا.
لم تكن الجزائر بمنأى عن الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة في الكثير من الدول، بل وكانت موجودة حتى قبل بروز هذا النوع من المواجهات في العديد من دول العالم، وكانت جلها تنحصر في تحسين الأوضاع الاجتماعية والمعيشية للسكان ، ولعل الميزة الأساسية للاحتجاجات الشعبية في الجزائر أنها مطالب اجتماعية كانت في كل مرة تجد استجابة نسبية لها.
والجزائر وعلى غرار دول العالم تستعد لاحياء اليوم العالمي للشغل، هذا الأربعاء وهي مناسبة لتقييم أوضاع العمال ومدى المحافظة على المكاسب المحققة، ومرة أخرى ستجد نفسها في موقع أقل ما يقال عنه أنه أفضل بكثير من العديد من الدول بما فيها الغربية والأوربية على وجه التحديد، ذلك لأنه في الوقت الذي تحصى فيه هذه الدول الخسائر الجسيمة في المكاسب العمالية والمستقبل المجهول لعشرات الملايين من البطالين ومن فقدوا مناصب عملهم بفعل تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، في هذا الوقت فإن الجزائر تبدو بعيدة عن عمليات التسريح الجماعي للعمال مثلما حدث في عز الأزمة التي مرت بها في تسعينيات القرن الماضي، والأكثر من هذا أن الدولة تبذل جهودا قصوى من أجل منح فرص الشغل للشباب بالدرجة الأولى عن طريق مختلف الآليات المستحدثة والمتمثلة في وكالات دعم تشغيل الشباب لكل الفئات العمرية، كان لها تأثير مباشر على إنحسار معدلات البطالة بتراجعها إلى ما دون 10 بالمائة وفق أحدث الإحصائيات.
تراجع معدل البطالة يعد في واقع الأمر مكسبا عماليا لا يستهان به، يحق للعمال الافتخار به وسط موجة من التداعيات الخطيرة التي يعرفها عالم الشغل في دول الربيع العربي والغربي على حد سواء، كما أن الزيادات الهامة التي عرفتها أجور العمال، هي بدورها مكسب آخر لا يقل أهمية عن الأولى، حتى وإن كانت تؤثر اقتصاديا على بعض المؤشرات الهامة كالتضخم وارتفاع مؤشر الأسعار إلى مستويات يبدو أنه بات غير متحكم فيها.
الاستجابة السريعة لمطالب العمال، ساهمت إلى حد كبير في رفع مستويات المعيشة لأعداد متزايدة منهم على إثر موجات الاحتجاج التي عمت الكثير من القطاعات، غير أن الآثار الايجابية لها على مستوى الطبقة الشغيلة لا ينبغي بأي حال أن تكون بمثابة الشجرة التي تغطي الغابة، في ظل غياب سياسة اجتماعية واقتصادية تأخذ بعين الاعتبار ذلك الارتباط الوثيق بين المطالب الاجتماعية وانعكاساتها المباشرة على ما يبذل من جهود لرفع انتاجية القطاعات وتحقيق الاستثمارات المنتجة وحدها الكفيلة برفع النمو الاقتصادي الحقيقي.
مستويات المعيشة التي تحسنت نسبيا بفعل الزيادات في الأجور دون أن يقابلها إنتاج عيني قد تتعرض مرة أخرى إلى هزات عنيفة، فيما لو استمر عجز التحكم في الكثير من المعطيات والمؤشرات الإقتصادية وفي مقدمتها مستوى الأسعار وآثاره المباشرة على التضخم، الذي يعني وببساطة امتصاص أية زيادة محتملة في الأجور خاصة وأن هذه الأخيرة عرفت وبحسب تقارير إقتصادية محلية وأجنبية صادرة عن هيئات مالية دولية، حدودا قصوى في الارتفاع قد يكون من المستحيل الاستمرار في نفس النهج المتبع منذ سنوات .
عدم إمكانية الاستمرار في نفس السياسة المتبعة في عملية رفع الأجور باتت واضحة للعيان، بعد ارتفاع الكلفة المالية لهذه الزيادة، تضاف إليها تلك الأعباء المالية الأخرى الناجمة عن التحويلات الاجتماعية في شكل دعم مباشر لأسعار المواد الأساسية ذات الاستهلاك الواسع، فضلا عن الأشكال الأخرى للدعم المباشر التي باتت تثقل كاهل الخزينة العمومية سنويا، خاصة وأنها تكاليف مالية غير منتجة، دفع بالجهات المعنية إلى التفكير في التخفيف منها، من خلال اعتماد أساليب أخرى للدعم تمس مباشرة الفئات الأكثر احتياجا وهشاشة، سيما وأن فئات أخرى واسعة المستفيدة من نفس آليات الدعم، يفترض أنها غير معنية بها.
من جهة أخرى، فإن معدل النمو الحقيقي الذي لا يتجاوز 3 بالمائة على أحسن تقدير يبقى غير كاف لتلبية الاحتياجات الملحة ولو أن عائدات النفط أنابت في زيادة الانفاق العمومي في مجالات غير منتجة، مما انعكس سلبا على مؤشر التنافسية الدولية ومؤشر سهولة آداء الأعمال، حيث احتلت الجزائر مراتب لاتعكس قدراتها، وينتظرها عمل كبير لتصحيح هذه المعادلة الصعبة والمعقدة.