مكاسب وتحديات بعد سنتين من إعادةانتخاب الرئيس بوتفليقة

الحفاظ على وتيرة الاستثمار المنتج من أجل تنمية مستدامة

سعيد بن عياد

حافظ القطاع الفلاحي على استقرار مؤشراته التي عرفت تحسنا في آخر السنة المنصرمة رغم صعوبة المناخ بتحقيق محاصيل جيدة في مواد مختلفة أبرزها البطاطس التي فتحت المجال أمام تنمية الصادرات خارج المحروقات وهو التحدي الذي تمثل فيه الفلاحة الحلقة المتينة ضمن الخيار الاستراتيجي لبناء اقتصاد إنتاجي ومتنوع الذي بدأت معالمه الأولى تتضح لتنضج ثماره في المدى القصير والمتوسط بما في ذلك إعطاء نفس للصناعة التحويلية التي تعتمد على المواد الفلاحية ومشتقاتها.
في هذا الإطار وضمن التوجهات الكبرى التي رسمتها الدولة للقطاع خرجت الاستثمارات الفلاحية بما في ذلك تربية الأبقار من إطارها الجغرافي التقليدي إلى الفضاءات الواسعة على مستوى الهضاب العليا والجنوب، حيث وضعت الدولة كافة الشروط المواتية لانجاز استثمارات فلاحية مندمجة بما في ذلك عن طريق الشراكة الأجنبية التي أسست لها موقعا في السنة الماضية من خلال تبادل الزيارات ومجيء وفود لرجال أعمال أجانب خاصة من أمريكا عبروا عن نواياهم  قصد إقامة مشاريع ينتظر أن تنطلق في السنة الحالية.
وكانت ثلاثية بسكرة التي انعقدت بعاصمة الزيبان الخريف الماضي منعرجا يكرس هذا التوجه بجعل الفلاحة القلب النابض للتنمية، خاصة وأن عوامل نهضتها قائمة على الأرض من وفرة للمياه وامتداد توصيل الكهرباء وشقّ وتعبيد الطرق وإرساء السكة الحديدة وتثبيت الساكنة عن طريق منح تجزئات للبناء الريفي والذاتي إلى جانب انفتاح مراكز التكوين المهني على مهن القطاع المختلفة ورد الاعتبار لبعضها ضمن رؤية بعيدة المدى للتنمية الفلاحية التي تدمج الإنسان في كل ربوع البلاد في المسار التنموي الشامل. وعرف استصلاح الأراضي الزراعية نقلة ذات جدوى في ظلّ تعزيز إجراءات حماية العقار الزراعي من مختلف أنواع وأشكال الاعتداءات سواء بفعل التوسع العمراني أو الاستحواذ غير المشروع من أصحاب المشاريع الاستثمارية الوهمية من لوبيات تحويل العقارات والمضاربة فيها على اعتبار أن الأراضي الفلاحية في كل بروع البلاد تكتسي طابعا حيويا لارتباطها بالأمن الغذائي مما يفرض إحاطتها بالحماية ليس عن طريق اتخاذ إجراءات بيروقراطية فقط، إنما عن طريق استغلالها طيلة السنة والحذر من إهمالها ممن ائتمنتهم الدولة لخدمة الأرض ذات القيمة العميقة في المجتمع.
وبالفعل استعادت الأرض الفلاحية مع كل القطاع مكانتها في المسار الاقتصادي باعتبارها الحلقة الأساسية في بناء منظومة استثمارية متكاملة لتحقيق النمو بحيث لم يعد القطاع الفلاحي مجرد محور منغلق على أنشطته التقليدية إنما تحول إلى مصدر لتحريك دواليب الصناعة التحويلية الغذائية وعجلة متينة في عربة التصدير الذي أعطاه هذا القطاع قوة لا ينبغي أن تتعطل، في وقت سجلت فيه فروع عديدة تحسنا في المؤشرات الإنتاجية لتساهم في تصحيح معادلة الأسواق الخارجية بالتقليص من استيراد عدة مواد تبين أن للجزائر قدرات لتحقيق اكتفاء ذاتي شريطة أن يتسم الاستثمار في الفلاحة باحترافية وبرؤية اقتصادية تتجاوز مجرد تقليب الأرض والانتظار. وانطلاقا من هذا المفهوم النابع من إمكانيات الفلاحة في تأسيس اقتصاد محلي برزت حتميات في الآونة الأخيرة تدفع بالقطاع إلى أن يتبوأ مكانة متقدمة على مسار التنمية من خلال توسيع نطاق الاستثمار الذي تدرج في أولوية ورقة الطريق مواصلة برنامج استصلاح مليون هكتار وتوسيع نطاق الري باستعمال التكنولوجيات الجديدة مع إدخال المكننة في ظلّ تحسن بناء السدود والمجمعات المائية لمواجهة شحّ السماء وانتعاش الصناعة الفلاحية لتركيب الجرارات ومختلف أنواع العتاد الذي يساهم في تكثيف الإنتاج وتحسين جودته من اجل تجاوز معضلة التنافسية في انتظار ديناميكية موازية لإقامة صناعة لمختلف الأدوية الزراعية والمضادات التي تقاوم الفيروسات وكل ما يعيق التحسين في الجودة وهو ما لا يمكن أن يتم سوى بإقامة جسور شراكة بين القطاع الفلاحي والجامعات ذات الصلة خاصة في ما يخصّ البذور المختلفة وحماية الأصناف المحلية في مواد أساسية كالقمح والحبوب الأخرى والأشجار المثمرة يتقدمها النخيل.
ويدرج هنا جانب مسؤولية الفلاحين بمختلف فئاتهم صغارا وأصحاب مؤسسات للانتقال إلى درجة أداء أكثر نجاعة ضمن التوجه الوطني الذي يجابه جملة من التحديات ذات الدلالات الكبيرة تتعدى إطار المصلحة الفردية أو مصلحة المؤسسة لترتبط بالمصلحة الوطنية، مما يفرض توسيع نطاق الحوار المهني داخل القطاع وانفتاح الفروع على بعضها البعض وفقا لمعادلة التكامل الذي يحقق القيمة المضافة ويعالج الكثير من المعوقات في وقت اعتماد ترشيد النفقات والحد من استهلاك الحلول الجاهزة وبالتالي السيطرة على الاستيراد بالدفع بالحلول الوطنية إلى الأمام وهو ما يمكن انجازه في وقت قياسي في قطاع الفلاحة.
وانطلاقا من هذه الحتمية يدفع النمو الذي أظهره القطاع على امتداد السنوات الماضية وتأكد بشكل ملموس ودائم في السنة الأخيرة رغم صعوبات ناجمة عن المناخ الطبيعي المتسم بشح الأمطار إلى تنمية تصور حديث للفلاحة بحيث ينبغي تحويل المستثمرات إلى مؤسسات اقتصادية ولو بالاحتفاظ على خصوصيات كل وحدة لحماية حق الامتياز الذي عرف تقدما في تسوية الملفات وينبغي الرفع من وتيرة عمل الجهة المكلفة بالتسوية لتأكيد الثقة وتثبيت حق الاستغلال في المديين المتوسط والطويل، ذلك أن الفلاحة بكافة فروعها ومكملاتها الصناعية إذا ما حققت مؤشرات ايجابية كفيلة بأن تعوض الكثير من الفارق الذي تفقده الجزائر جراء تداعيات انهيار أسعار المحروقات كونها بحق ثروة دائمة تحتاج فقط إلى احترافيين يدركون مدى الرهانات الماثلة في الأفق.
تعزيز البنية التحتية ودعم منشآت النقل
تعززت القدرات الوطنية والمحلية في قطاع البنية التحتية ومنشآت النقل خلال السنة الأخيرة بمشاريع وانجازات ذات أبعاد ترتكز عليها التنمية المستدامة خاصة وأنها تتطابق مع التوجهات الجديدة التي تؤسس لمرحلة التحرر من التبعية للمحروقات. ويتعلق الأمر بتنمية شبكة النقل البري والقطار والبحري وتوجيهه صوب الاستجابة لمتطلبات الخيارات الاقتصادية بتعزيز وتيرة الاستثمار وتصريف إنتاجه وسيولة خدماته برؤية شاملة تتعدى الإطار الجغرافي المحلي نحو أسواق افريقية وإقليمية مختلفة، حيث يمكن كسب موارد مالية معتبرة
وبالفعل حقّق قطاع النقل مكاسب بفضل الحفاظ على وتيرة الاستثمار خاصة في قطاع السكك الحديدة والموانئ والشحن (الذي يشكل تحدي المرحلة المقبلة لتقليص الكلفة) بالرغم من تغيّر معطيات المعادلة المالية بسبب أزمة أسعار المحروقات. وواصل القطاع تصدره للمشهد من خلال استكمال مشاريع بناء خطوط السكك الحديدة والتي لا يزال بعضها جاريا مع قرب استلامها والرفع من قدرات صناعة العربات وعصرنة الخطوط ضمن شبكة متوازنة امتدت إلى الهضاب العليا لتربطها بالشمال.
وكانت السنة المنصرمة حافلة بالمكاسب في هذا القطاع بحيث أبرمت عدة شراكات من أهمها مشروع انجاز الميناء التجاري للوسط ليكون محطة تحويل وتصدير إلى الخارج مما يستجيب لمتطلبات المؤسسات الاقتصادية الإنتاجية في توجها إلى الأسواق الخارجية التي تخضع لتنافسية الأسعار وجودة الخدمات التي يمثل فيها النقل عنصرا حاسما. وهو ما يراهن على القطارأن يجسده، خاصة وأن الشبكة السككية موصولة بالمواقع المعنية من مناطق صناعية ومحيطات فلاحية وموانئ للتصدير بالموازاة مع شبكة الطرق البرية والمطارات التي استفادت من برامج انجاز جديدة وأشغال للتهيئة والتدعيم واقتناء طائرات للشحن تليها عدة عمليات في السنة الجارية.
ولم يعد النقل مجرد مرافق لعجلة الاستثمار بل تحول إلى فاعل ايجابي ومساهم بشكل مزدوج في تنمية الإنتاج المحلي من خلال إنتاج جانب من الوسائل والتجهيزات وطنيا وبالشراكة الأجنبية والاستجابة للاحتياجات الاقتصادية التي تعكسها متطلبات الاستثمار والتنمية التي تعبر عنها وتيرة نشاطات المؤسسة الجزائرية.
البيروقراطية تنهار أمام متطلبات النمو
وشملت المؤشرات الايجابية للسنة الماضية بالرغم من جوانب الصعوبات التي ألقت بظلالها على المشهد الاقتصادي نتيجة افرازات الصدمة المالية الخارجية بفعل أزمة أسواق المحروقات مواصلة ديناميكية مكافحة البيروقراطية في المجال الاقتصادي بكل جوانبه من مضاعفة إجراءات تحسين مناخ الاستثمار ومحاصرة الفساد وتسليط الضوء من خلال آليات المراقبة البنكية التي تحتاج لمزيد من الجهد على مختلف أنواع التحايل والترهب الضريبي والتلاعب بالفواتير وهي مهمة يرتقب أن تزداد وتيرتها لحماية الاقتصاد وضمان ديمومة المؤسسة. وكان لمتطلبات التنمية المستدامة في مواجهة تراجع احتياطي الصرف وانكماش المداخيل البترولية وضرورة حوكمة التسيير بإضفاء الشفافية في ظلّ تعزيز حرية المبادرة وفقا لما كرسه الدستور المعدل في غضون السنة الأخيرة واضعا الجانب الاقتصادي في الصدارة انعكاسا على مناخ الأعمال الذي استفاد في تلك السنة من تدعيم لكافة الجوانب التي ترتكز عليها عن طريق إدخال تكنولوجيات الإعلام الجديدة وإرساء الدعائم الالكترونية في المعاملات الأمر الذي قلص من عدد الوثائق البيروقراطية ووفر الزمن للمستثمرين والمتعاملين الذين أصبح المجال مفتوحا أمامهم لانجاز المشاريع الإنتاجية في كافة القطاعات.  وحتى لو أن الوتيرة بطيئة، إلا أن أمورا عديدة تحققت ولا يمكن تجاهلها على غرار توسيع وسائط المعاملات الكترونية وامتصاص الأموال المتداولة في السوق الموازية وكسر التهاب أسعار العملات الأجنبية بالرغم من تعرض قيمة العملة الوطنية لتراجع غير مسبوق في تلك السنة رافقه عودة هاجس التضخم الذي يجري امتصاصه عن طريق اختتما السنة الماضية بإطلاق القرض السندي كفاتحة خير للسنة القادمة ضمن منهج مستمر وغير متقطع للتنمية بشكل يضع الاقتصاد الوطني بكافة حلقاته القوية والهشّة مثل السياحة في مأمن من انعكاسات أزمة الأسواق البترولية التي تخضع لصراعات القوى العالمية النافذة في القرار الدولي والتي تحرّك دواليب شركاتها العابرة للحدود لمحاصرة اقتصاديات البلدان الناشئة ومنها الاقتصاد الوطني واستنزافها في إطار حرب الأسواق ومصادر الطاقة المختلفة.
حرية التجارة في انتظار أدوات الضبط
وعلى صعيد التجارة باعتبارها حلقة محورية في النسيج الاقتصادي ومرآته العاكسة لمدى نجاعة الإنتاج وتنافسيته استفاد القطاع خلال السنة من مكاسب، مستفيدا من حرية التجارة وارتفاع الإنتاج في بعض القطاعات الصناعية. وكان لقرار تطبيق القرض الاستهلاكي أثره الفعال على وتيرة التجارة التي حملت على عاتقها تطلعات الإنتاج الوطني فازدهرت التجارة في قطاعات الكهرومنزلي والإلكترونيك والسيارات والتجهيزات المختلفة إلى جانب العقار السكني.
وتميزت السنة المنصرمة باعتماد نظام رخص الاستيراد تحت ضغط أزمة الايرادت المالية الخارجية وحماية السوق الداخلية. بينما سجلت في ظلّ تلك الديناميكية مشاريع انجاز أسواق جوارية وإطلاق برامج لأسواق الجملة بشكل يتم من خلاله ادمجاها في المشاريع الكبرى لتهيئة الإقليم، مع تفعيل إجراءات مكافحة الأسواق الموازية في انتظار أن يتم تطبيق آليات أدوات الضبط التي يرتقب أن تكرس عمليا في السنة الموالية وفقا لرؤية بعيدة المدى تقوم على اعتبارات الشفافية التي تحميها احترافية مهنة التجارة والتزامها بالمعايير.
وعرفت إدارة القطاع في نفس الفترة مواصلة برنامج العصرنة من خلال مواصلة إدخال الوسائل التكنولوجية الجديدة ضمن بناء منظومة متكاملة وفعالة توفر للتجارة وممارسيها المناخ الايجابي الذي يساعد على إتمام الصفقات والمبادلات وإبرامها وتجسيد المشاريع بأقل كلفة وبأكثر أمان، خاصة من حيث شروط السلامة ومكافحة الغش والتقليد. غير أنه برزت في نفس الوقت الحاجة لإرساء معالم متابعة الأسواق محليا ودوليا لتقوية جانب النجاعة التجارية بما يخدم الاقتصاد الوطني وذلك بتنمية سلوكات التصدير التي بدأت تنتعش في تلك الآونة وتستلزم تعميقها في الساحة لتتحوّل في المدى القريب إلى مولد للنمو الذي يراهن عليه النموذج الاقتصادي الجديد ويعوّل عليه للعبور إلى سنة أخرى حافلة بالمكاسب التي تعزز قدرات رفع التحديات وتجاوز تداعياتها.

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024