دقّ انهيار أسعار المحروقات ناقوس الخطر، وسارعت بلدان عديدة في سباق مع الزمن لترتيب أوضاعها من أجل التقليل من حدة صدمة مالية محتملة، بل بدأت تأثيراتها مبكرا. وتعد الجزائر من ضمن البلدان التي تتأثر بشكل جلي بتقلبات أسواق المحروقات والتراجع المنتظم والممنهج لأسعار برميل البترول، في وقت تملك فيه أوراق معتبرة لإعادة بناء أسس اقتصاد متنوع وبديل، يرتكز على تنمية التصدير والاستثمار الوطني في الأسواق الخارجية. لقد حققت الجزائر في السنوات الماضية موارد مالية هامة وكان بالإمكان توظيف جانب منها في استثمارات خارجية، خاصة في ظل تداعيات أزمة منطقة اليورو حينما دخلت بلدان وشركات كبرى في أزمة سيولة خانقة. ومن أجل تسليط الضوء على جوانب قدرات وآفاق الاستثمار الوطني في الخارج تمت استضافة أستاذ الاقتصاد بالمدرسة العليا للتجارة السيد ايلمان محمد شريف الذي يشخّص واقع الاستثمار الوطني العمومي والخاص بالخارج في ضوء التشريع الساري المفعول (تنظيم 2014)، فيحدد جوانب القوة والضعف فيه، داعيا الى إجراء قراءة ثانية لهذا التنظيم من أجل توسيع مجالات الاستثمار لفائدة المنتجين ولا يقتصر على المتعامل المصدر حصريا. كما أبرز قيمة وضع الثقة في الكفاءات الجزائرية الشابة ومرافقتها من خلال منظومة مراقبة ذكية لتعزيز الساحة الاقتصادية والمالية في مواجهة المنافسة الأجنبية. غير أنه في ظل تداعيات أزمة أسعار المحروقات لا يستبعد أن يتم اللجوء إلى استعمال جانب من الاحتياطي الوطني من العملة الصعبة لمواجهة الموقف الذي يستدعي -حسبه- اللجوء إلى مراجعة سياسة الدعم للأسعار وضبط مسارات التحويلات الاجتماعية لتصل إلى أصحابها الحقيقيين.
يشكل التنظيم التطبيقي الذي يرخص للمستثمر الجزائري لإنجاز مشاريع في بلدان أجنبية مفتاحا حقيقيا يشجع المتعامل على اتخاذ خطوة التواجد في قلب المعركة التنموية على اعتبار أن استثمار الجزائريين في الخارج من شأنه أن يحقق مواردا معتبرة وسلعا تسوق داخل وخارج الوطن ويفتح المجال لنقل تلك الخبرة والتجربة للمنتج المحلي، وتعزز الإطار القانوني المتعلق بضبط آلية الترخيص للمستثمر المحلي كي يجسد مشاريعه بالخارج بتنظيم تطبيقي جديد صدر في سبتمبر 2014، فهل يمكن لهذا التنظيم أن يسرع من وتيرة إقبال المستثمرين خاصة الخواص منهم على تجسيد مشاريع استثمارية في بلدان أجنبية والظفر بفرص استثمارية أمام تحديات تراجع أسعار النفط؟
اعتبر البروفيسور محمد الشريف إيلمان أن أولى خطوات الانفتاح نحو إرساء استثمار وطني بالخارج تجسدت تشريعيا في مرحلة الانتقال بداية عقد التسعينيات بموجب قانون النقد والقرض، والذي سمح بالموازاة مع ذلك بوجود المستثمر الأجنبي في الجزائر، وأصدرت بذلك التنظيمات التطبيقية بهدف دخول رؤوس الأموال الأجنبية إلى الجزائر، لكن فيما يتعلق بخروجها والسماح للمستثمر الجزائري بالتواجد في قلب المشاريع لبلدان أجنبية ورغم وجود النص القانوني إلا أن التنظيم التطبيقي الذي من المفترض أن يصدره مجلس النقد والقرض، لم ير النور إلا في سنة 2002. وبات مرخصا كي يقتحم الخواص عالم الاستثمار في بلدان أجنبية، ولم يخف الدكتور أنه ليس على علم إن تم تسجيل تطبيق لهذا التنظيم قبل هذه السنة.. وما هو حجم الاستثمارات الجزائرية في الخارج خاصة تلك التابعة للقطاع الخاص؟ في ظل وجود استثمارات جزائرية لكبرى الشركات العمومية في بلدان أجنبية على غرار كل من مجمع سوناطراك والجوية الجزائرية وكذا بعض البنوك. وأوضح أستاذ المدرسة العليا للتجارة أن هذا التنظيم التطبيقي الأول من نوعه في الجزائر نص على ضرورة أن يكون هذا الاستثمار مكملا للنشاط المحلي أي يسري على كل مواطن مقيم في الجزائر، وفيما يتعلق بفترة البحبوحة المالية التي لم يسجل فيها مبادرات لإطلاق مشاريع استثمارية وطنية بالخارج من خلال استغلال أزمة السيولة في بعض البلدان والشركات الأوروبية، خاصة من طرف القطاع الخاص، أكد الدكتور انه لحد اليوم وعلى ضوء الإحصائيات التي نشرت اتضح أن كل من سفيتال وكوندور لديهم مشاريع استثمارية في الخارج، ومن المفترض في إطار ما ينص عليه القانون.
وعرف الاستثمار الوطني في الخارج تغيرا جديدا فيما يخص التنظيمات التطبيقية، على اعتبار أنه في سبتمبر 2014 صدر تنظيم جديد عن مجلس النقد والقرض يلغي السابق ويعوضه، وذكر الدكتور إلمان في سياق متصل أن التنظيم التطبيقي الأخير تراجع من حيث الشق المتعلق بالتعميم، كون تنظيم سنة 2002 شمل جميع المنتجين الجزائريين، بدون استثناء بينما التنظيم الجديد حصر من يحق له الاستثمار بالمصدرين وحدهم، متسائلا عن سر هذا التحديد، وكون الاقتصاد الجزائري يتطلع بشكل كبير نحو استقطاب الاستثمار المحلي والداخلي والتواجد كذلك بالخارج بهدف خلق الثروة وتنويع الصادرات خارج قطاع المحروقات.
وأثار الدكتور في ظل الإرادة القائمة لبناء اقتصاد قوي قائم على استثمارات واسعة وعميقة ومتنوعة سلسلة من الاستفهامات في صدارتها أهمية فتح الاستثمار الأجنبي والوطني في الخارج والإضافات التي يمكن أن يقدمها، لأنه على قناعة كبيرة أن هذا الاستثمار مكمل للاستثمار الداخلي، غير أن حسب تقدير الدكتور فإن عبارة التحديد التي اقتصرت على المصدرين وحدهم من شأنها أن تقصي العديد من المنتجين الذين لديهم سلع بمستوى التصدير. ووقف أستاذ كلية التجارة في هذا المقام عند عدة احتمالات جوهرها يكمن في قدرة المنتج المحلي الذي ليست لديه موارد من العملة الصعبة على توفير سلع عالية الجودة قابلة للتصدير في ظل، كما أوضح يقول، وجود عدة منتجين مؤهلين للاستثمار في الخارج لكنهم يفتقدون لصفة المصدر، ويمكنهم أن يتطوروا أكثر في الأداء ويتحوّلون إلى مصدرين.
شهدت مسألة إصدار التنظيم التطبيقي الجديد خلال السنة الفارطة سلسلة من تخوفات العديد من الخبراء ومن بينهم الدكتور إيلمان وتقاطعوا في تساؤل واحد يكمن في ..هل من شأن التنظيم الجديد أن يقلل من فرص فتح الاستثمار الوطني بالخارج؟ وهل يمكن أن يسفر التنظيم الجديد عن تسجيل تراجع في الدفع بوتيرة تجسيد استثمارات جزائرية في بلدان جزائرية؟ ولم يخف الإطار السابق ببنك الجزائر إمكانية ولوج العديد من المستثمرين المحليين مجال الاستثمار في بلدان أجنبية خارج القانون، أي استثمارات تجسدت قبل قانون 1990 وسبق صدور القانون الجديد بعبارة “ ..يمكن القول أن بعض المستثمرين قد استثمروا في الخارج خارج القانون..” أما عقب صدور التنظيم لم يتضح إن تم تسجيل ذلك أم لا.
وتحدث الدكتور كذلك عن مسألة تحديد نسبة مداخيل المصدرين، والتي على أساسها يتم الترخيص لهم بالاستثمار خارج الوطن، وأشار إلى أنه من الأحسن أن لا يحدد رقم معين وتترك مفتوحة وإن كانت مرتفعة.