تحويـــل التكنولوجيــا والتكويــن أولويــة
شكل الاستقرار الذي تنعم به الجزائر في المرحلة الراهنة، بمثابة رسالة طمأنة قوية للشركاء الأجانب، الذين يتأهبون في الوقت الحالي لدخول السوق الجزائرية وبناء استثمارات منتجة مع الشريك الجزائري، بفضل تغير مناخ الأعمال بالدرجة الأولى وكذا الاستقرار السياسي الذي بدأ يتكرس منذ آخر انتخابات رئاسية، وخير دليل على ذلك الاهتمام التركي القوي الذي اتضح بشكل جلّي في منتدى الأعمال الجزائري التركي بقيادة الرئيس التركي أردوغان، الذي وصف الجزائر بالثرّية طبيعيا وثقافيا، بل وقال إنها بوابة إفريقية والمغرب العربي الإستراتيجية، يضاف إليها الاهتمام الأوكراني الذي أبدى استعداده لبناء شركات تحويل التكنولوجيا في عدة قطاعات يتصدرها المجال الفلاحي.
صارت الجزائر بعد الاستقرار الذي حققته مؤخرا، منطقة جاذبة للاستثمارات، وبلدا مغريا يتأهب عليه الشركاء، حيث منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وإلغاء القاعدة الاستثمارية 49 / 51 في قانون المالية الساري، منذ مطلع العام الجاري، صار مناخ الأعمال محفزا بشكل أكبر، ناهيك عن القدرات البشرية والطبيعية وحتى بالنسبة لوفرة الموارد الباطنية التي تعد من نقاط قوة الجزائر، ولعل الحديث اليوم ينبغي أن يركز حول وضع خطة ترتب فيها الأولويات التنموية، بالإضافة إلى ضرورة انتقاء الشركاء الحقيقيين الذين يمنحون من خلال الشراكة والاستثمار قيمة مضافة، ولا يبخلون في تحويل التكنولوجيا عن طريق تكوين اليد العاملة الجزائرية، ومن خلال إحضار مكوّنين لتأهيل أكبر قدر من اليد العاملة.
تقاسم الخبرة والربح
أضحت الشراكة الجزائرية التركية قريبة من التجسيد على أرض الواقع مباشرة، عقب انعقاد منتدى الأعمال الجزائري التركي، الذي حدد أهم المحاور لهذا التعاون، وسطر الطرفان بالموازاة مع ذلك، ورقة طريق لتسليط الضوء على القطاعات التي تبنى عليها الشراكة وتدرجها الجزائر ضمن الأولويات، ويرتقب إلى جانب ذلك أنها سوف تستقطب رجال الأعمال الأتراك، على غرار المؤسسات الناشئة، وتكثيف الإنتاجية في مختلف قطاعات الصناعة الخفيفة، بالإضافة إلى التكنولوجيات الحديثة والفلاحة والري. وعلى ما يبدو فإن هذه الشراكة تعكس مؤشرات جد إيجابية ونموا محسوسا مستقبلا، على خلفية أنها تحظى بتزكية الإرادة السياسية لرئيسي البلدين.
لاشك أن تركيا قطعت أشواطا معتبرة، بعد أن عبر اقتصادها إلى مسار الدول الناشئة، ويمكن أن تنقل الكثير من خبراتها وتجربتها المتطورة إذا تجسّدت مشاريع تنموية، ترتكز على قاعدة شراكة رابح- رابح، حيث يستفيد الطرفان على قدم المساواة من المشاريع على صعيد تقاسم الثروة التي يتم استخراجها، وتغتنم المؤسسات الجزائرية المبنية بالشراكة مع الأتراك الفرصة، لتعزيز الإنتاج الوطني والرفع من تنافسيته، ليكون ذا جودة قابلا للتصدير في الأسواق الخارجية.
يمكن خوض في غمار الشراكة التركية، من بوابة انطلاق بناء الشراكات في المجالات التي نفتقد فيها للخبرة ونحتاج فيها للتكنولوجيا، علما أن الشريك الأجنبي خاصة الأوروبي أو حتى الأسيوي، يرى في الجزائر موقعا مهما للإنتاج والتصدير لقربه من الأسواق المغاربية والإفريقية، حيث يمكن لتركيا أن تنتج بفضل مشاريع شراكة وتصدر مع الجزائر ما تطرحه الآلة الإنتاجية، ومن الجانب الجزائري ينبغي اختيار المستثمرين الحقيقيين والنزهاء والذين يتوفر لديهم عنصر الكفاءة ويعملون في شفافية من أجل المشاركة الفعالة في التنمية الشاملة، وبناء منظومة اقتصادية متينة، بما يسمح ببروز مؤسسات تجلب العملة الصعبة ولا تتسبب في نزيفها. يمكن وصف آفاق التعاون والشراكة في إطاره العام بالواعد والمنسجم، لكن رقابة الدولة وتقييمها لمختلف المشاريع الاستثمارية التي ستنطلق، تتطلب المتابعة والتقييم للوقوف على كل ما تقدمه من إضافات، كوننا دخلنا مرحلة جديدة أجرينا فيها القطيعة مع أخطاء وتجاوزات المرحلة السابقة. علما أنه يمكن لمذكرة التفاهم التي أبرمتها الجزائر في مجال البحث العلمي والتكنولوجي مع نظيرتها التركية أن تفضي إلى العديد من المكاسب، على صعيد ترقية البحث العلمي، لكن الذي تستغله المؤسسة الاقتصادية في تطوير منتوجها، أي يجب أن يخرج من المخابر لتستفيد منه الآلة الإنتاجية. يذكر أن تركيا بدت متحمسة لمقاسمة الجزائر تجربتها الناجحة في مجال الصناعة الغذائية وحتى في الصناعة الدفاعية. وإذا بنيت هذه الشراكة بشكل صحيح مع الأطراف المناسبة، لاشك أنها سوف تعطي ثمارها، خاصة في ظل تراجع أسعار النفط المستمر وسط تقلبات مفاجئة، بفعل العوامل الجيو استراتجية على وجه الخصوص.
بناء شراكات منتجة
من جهته، تحمس الطرف الأوكراني لمقاسمة الجزائر الشراكة في مشاريع متعددة، في صدارتها نذكر القطاع الفلاحي ومجال تخزين الحليب ومختلف المنتوجات الفلاحية، بل بدت أوكرانيا على لسان سفيرها بالجزائر، جد منبهرة بالجزائر لتكون وجهة سياحية للأوكرانيين، يتدفق عليها الملايين من السياح على غرار تركيا ومصر. في وقت يتأهب وفد أوكراني رفيع المستوى ويضم العديد من رجال الأعمال لزيارة الجزائر شهر مارس المقبل، للوقوف على فرص الاستثمار وإقامة شراكات، أقل كلفة مع نظيرتها الأوربية وأكيد أنها لا تخلو من التكنولوجيا الحديثة.
يتطلع المستثمر الأوكراني لتطوير مجال انتاج الحليب، الذي يمكن أن تتحول فيه الجزائر من مستورد بفاتورة مرتفعة إلى منتج ومصدر، فقط المسألة تحتاج إلى رؤية وتخطيط ثم الشروع في بناء الشراكات المنتجة، وتحتاج الجزائر في هذا المقام إلى تطوير إنتاج شعب الحبوب والخضر والفواكه، خاصة ما تعلق بالبطاطا والزيتون لتصديرهما نحو أسواق خارجية، علما أنه لا يمكن التصدير إلى الخارج إلا بعد ضمان كثافة الإنتاج على مدار السنة، حتى لا يسجل أي انقطاع في تموين الأسواق، فعلى سبيل المثال الأسواق الخليجية تحتاج إلى تموين مستمر من البطاطا والفواكه، بل وتعتبر الزيتون الجزائري من أحسن أنواع الزيتون مثلها مثل أمريكا والعديد من الدول التي تستورد الزيتون وزيت الزيتون الجزائرية.
ينتظر من الشريك الأوكراني أن يجلب العلم والتكنولوجيا، لتحسين المساحات المسقية والرفع من الإنتاج الفلاحي الوطني بما يسمح بتحقيق الاكتفاء الذاتي، وبعد ذلك تصدر المنتجات نحو الخارج، خاصة أن المستثمر الأوكراني مهتم بتحويل خبرة وتقنيات الحفظ والتخزين، بكل ما يتعلق بالمنتجات الفلاحية أي ويشمل ذلك اللحوم والحليب. والجدير بالاشارة فإن تطور القطاع الفلاحي ونموّه، من شأنه أن ينعكس على إقامة صناعة غذائية واعدة.
رقابة صارمة على المشاريع
صحيح أنه تم الحديث مطوّلا خلال السنوات الماضية عن الشراكة الجزائرية- الجزائرية، سواء تعلق الأمر بكل من القطاع العمومي ونظيره الخاص أو العكس، لكن الإرادة التي كانت قائمة على الصعيد السياسي، لم تجسد بالشكل المطلوب، ولم يعط ذلك دفعا لمسار النمو الذي بقي بطيئا، وبالرغم من إنفاق أغلفة مالية معتبرة، لكن النتائج جاءت ضعيفة وبقيت التبعية في العديد من المنتجات نحو الخارج، بل وبقي السائح الجزائري في ظل غياب هياكل الاستقبال وغلاء تكلفة الفنادق والمطاعم يفضل الوجهات الخارجية، أي يسافر نحو تونس أو اسطنبول أو القاهرة.
إذا تشجيع الشراكة المحلية يكتسي بدوره أهمية خاصة في قطاع الصناعة الصيدلانية والمجال الإلكتروني والكهرومنزلي والغذائي والميكانيك وحتى بالنسبة للمناولة، وفي مجال إنجاز البنايات والمشاريع الكبرى، حيث يمكن لأكثر من مؤسسة خاصة برفقة مؤسسة عمومية القيام بانجاز مشاريع، كانت في السابق تسند لشركات أجنبية صينية أو مصرية أو تركية، من أجل التقليص في نفقات العملة الصعبة في ظل وفرة مواد البناء من حديد واسمنت وحصى.
يعوّل كثيرا على مراجعة القاعدة الاستثمارية 49-51 من أجل تغيير خارطة الاستثمار وتشجيع جلب الأموال والخبرات في الجزائر من طرف عدة دول ولعلّ الحاجة إلى خطة دقيقة لتكثيف النسيج الاستثماري المتنوع والبحث عن الشراكة الرابحة التي تحول فيها التكنولوجيا، وتسمح في نفس الوقت بتكوين الموارد البشرية، لأن الانطلاقة الصحيحة المتأنية التي ترتب جميع خطوات نجاح المشاريع من شأنها أن تسمح لقطار التنمية أن يسير في سكته الصحيحة من دون تعثر أو توقف.