قرار جسّد السيادة الاقتصادية في أكبر معانيها

بالإرادة نفسها يمكن أن ندفع إلى إنجاز التحول الطاقوي

سعيد بن عياد

رؤية دقيقة ترتكز على قرار سياسي حاسم  لبناء التوجه الجديد

ثمان وأربعون سنة تمر اليوم على القرار التاريخي الذي اتخذته القيادة العليا للبلاد، بعد أقل من عشر سنوات عن استرجاع السيادة الوطنية.
في 24 فبراير 1971 ، وبعد ثلاث سنوات من عمر مسار تفاوضي مع الشركات الفرنسية المحتكرة للمحروقات حول مراجعة السعر المرجعي لتحصيل عائدات الضرائب للدولة الفتية، وقد كان متدنيا جدا مقارنة بعائدات النفط، أطلقها الرئيس الراحل هواري بومدين (محمد بوخروبة) مدوية بإعلانه القرار التاريخي الحاسم «قررنا تأميم قطاع البترول والغاز».

منذ سنة 1969 شرعت الجزائر في السعي إلى بناء مقاربة جديدة للوجود الفرنسي في سوق النفط، فدعت الشركات الفرنسية إلى التعامل مع الوضع الجديد برؤية بناءة، بالقبول بمراجعة البيانات والمؤشرات التي تحكم عملها في الحقوق النفطية الجزائرية، إلا أن جشعها وتصلب حوكمة بلادها وراء رفض صريح ضمن اتباع سياسة تلاعب وتماطل، فيما كانت تجمع أموالا لا تقدر تضخ في خزينة الدولة الفرنسية لتمويل رفاهية شعبها.
لعب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بصفته وزيرا للخارجية حينها دورا نوعيا بقيادته لعمل دبلوماسي ترجم إرادة القيادة الوطنية للبلاد، فأبدى تمسكا لا يلين بمبدأ حصول الجزائر على مطلبها المشروع، فكانت جولات ماراطونية أشبه بتلك التي تمت خلال «مفاوضات ايفيان» لتقرير المصير، من حيث صلابة الموقف وتكتيك التفاوض وانتزاع الحق.
أمام التأكد من عدم جدوى مواصلة مسار المفاوضات والحاجة الملحة للموارد المالية لإنجاز الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للدولة الجزائرية الناشئة، خاصة إزالة آثار الوجود الاستدماري الفرنسي الذي طال ليله حالك السواد لأكثر من قرن من الزمن، تشكّلت قناعة بضرورة اتخاذ قرار يستمد قوته من بيان أول نوفمبر انسجاما مع أهداف ثورة التحرير التي وضعت الإنسان في صلب إستراتيجيتها.
لم يكن بالإمكان الانتظار أكثر لإنجاز المهمة الكبرى، وإدراك الوجه الآخر للاستقلال بوضع كل الموارد الطبيعية الباطنية تتقدمها المحروقات تحت سلطة الدولة لتسخيرها للتنمية الشاملة لفائدة الأجيال، فكانت ملحمة تأميم البترول والغاز الطبيعي في ذلك اليوم المشهود، عنوانا بارزا في المشهد الوطني والعالمي، خاصة وأن اللجوء إلى التأميم لم يكن أمرا يسيرا في ضوء إفشال تجربة مماثلة سبق أن حدثت في إيران أيام مصدق الذي تعرض لمؤامرة خارجية حضرت لها وجهزتها شركات كبرى لم تهضم الخيار.
لم يراود القيادة الوطنية، المسلحة بإرادة جيل نوفمبر، أدنى شك في أنها تكسب الرهان وترفع التحدي، بفضل حسن التخطيط للعملية ودقة التسطير للهدف، في وقت انخرطت فيه الكفاءات الجزائرية في معركة تقرير المصير الاقتصادي المالي، بالتواجد في مواقع العمل على مستوى الحقول والمحطات لتأمين السير الحسن لوتيرة الإنتاج وتموين الزبائن ضمانا للمصداقية وتجسيدا للروح الوطنية، وبذلك أحبطوا مشروع الشركات الفرنسية بسحب تقنييها ومهندسيها في الشأن محاولة منها تعطيل التغيير الذي انطلق بلا توقف.
في ذلك اليوم تم طي صفحة من صفحات الهيمنة والاحتكار، وفتح أخرى لكتابة تاريخ جديد بتوقيع جزائري واضح لا يزال يحدث الصدى إلى اليوم، بحيث لم تتعطل الآلة ولم تتوقف الحركة بفضل تولي الشركة الوطنية للمحروقات «سوناطراك» مهمة قيادة بناء اقتصاد حديث، ومواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية، واضعة كل الإمكانيات المتاحة في خدمة البلاد، فكان لذلك القرار أثر إيجابي مباشر على موارد الدولة من العملة الصعبة وبالتالي حيازة الإمكانيات اللازمة لتمويل المخططات والبرامج والمشاريع الضخمة في مختلف المجالات.
بالرغم من تعثرات في مراحل معينة، فقد واصلت الشركة، التي تمثل مكسبا للشعب الجزائري ومصدر قوته، إنجاز المهمة الموكلة لها، ولا تزال كذلك في انتظار القيام بهبة جديدة على مسار التحول الاقتصادي والطاقوي لاقتحام مجال الطاقات المتجددة تحسبا للتغيرات التي يتجه إليها العالم حاليا.
في هذا الإطار كان إعادة تشغيل مصفاة تكرير النفط «سيدي رزين» يوم الخميس الماضي بالعاصمة بمثابة إشارة قوية تؤكد الحرص على مواصلة العمل في نفس الاتجاه، وهو مكسب جديد للقطاع في مرحلة إعادة الانتشار قصد التموقع بشكل ناجع في السوق ومواجهة تداعيات الصدمة المالية الخارجية ضمن ورقة الطريق المسطرة لآفاق 2030، والتي تضع الحوكمة والموارد البشرية ضمن صدارة العمل المستقبلي.
بهذا الخصوص حقّقت «سوناطراك» شوطا معتبرا على طريق إعادة التموقع والتكيف الداخلي وفقا لمعايير النجاعة والشفافية، في تحدّ يستمد عزيمته من الرصيد التاريخي لقطاع المحروقات المرتكز على قرار سياسي ثابت ورؤية واضحة تجسده من خلال مشاريع فيها جرأة وإقدام، مثل اقتناء محطة تكرير بإيطاليا، وشراء حصص في رأسمال شركات أجنبية مع البحث عن فرص رابحة للاستثمار في بلدان نفطية بإفريقيا وغيرها.
والتحدي المصيري الذي تواجهه «سوناطراك» في المدى المتوسط على الأقل يتمثل في كسب رهان الطاقات المتجددة بوضع الموارد والإمكانيات ضمن برنامج التحول الطاقوي بالعمل مع شركاء محليين وأجانب لديهم قناعة الاستثمار في الجزائر مستفيدة من مناخ محفّز على أكثر من صعيد.
أمام الوضع الراهن بكل تعقيداته لا تزال مكاسب هذا اليوم المنعرج في تاريخ الجزائر تلقي بظلالها على المشهد الوطني، غير أنه يجب التزود بقوة تلك الإرادة التي تجسدت بمناسبة التأميمات للعبور إلى مرحلة طاقوية جديدة ترتكز على الخيارات البديلة أبرزها الطاقة الشمسية الحرارية، وهي مهمة تقع عل عاتق المتعاملين المهتمين بهذا الشأن علما أنها سوق رابحة في ضوء التغيرات التي يعرفها العالم.
ويتعلق الأمر هنا بإرادة توظيف الطاقة التقليدية لبناء نظيرتها المتجددة، وذلك باعتماد رؤية دقيقة ترتكز على قرار سياسي حاسم ونهائي لبناء التوجه الجديد وإقحام العنصر البشري في تجسيد البنية التحتية التي تحمل التطلّعات في إرساء نظام طاقوي مستدام، بتوظيف فعال للعلم والابتكارات، علما أن القدرات في هذا الشأن موجودة ويمكن تدعيمها بتفاوض فعال حول مشاريع ملموسة مع شركاء أجانب يمكن إقناعهم إذا كان للطرف الجزائري الكفاءة والحرص على تقديم شيء للأجيال.
إن المادة الخام للعقل المبتكر والمخترع لا تقل أهمية عن المادة الخام للمحروقات، وفي هذا السياق تندرج عملية إعادة الانتشار للموارد البشرية للقطاع بحيث يمكن النهوض بالأداء على مستوى الحقول النفطية ومراكز البحث والاستكشاف بالموازاة مع ترشيد النفقات وتقليص الأعباء غير اللازمة، كما أكده عبد المؤمن ولد قدور الرئيس المدير العام لمجمع «سوناطراك» عندما وصف التغييرات التي أجراها على مستوى بعض مراكز التسيير بالعادية كونها ترمي إلى ضخ دم جديد في دواليب شركة ينتظر منها تقديم الكثير في هذه السنوات خاصة وأن لها الإمكانيات للقيام بذلك.
ومن شأن اعتماد النمط التسييري المفتوح وإحداث تنافس بين الكفاءات أن يقدم الإضافة المطلوبة على مسار التحول، بحيث يدفع بالمجمع، المعوّل عليه في النهوض بالموارد المالية للمجموعة الوطنية، إلى تحسين مرتبته ضمن أكبر الشركات النفطية في العالم، وهو ما بدأ يظهر بعد أن أنهي تطهير الملفات العالقة مع شركاء أجانب وترميم صورة الشركة في العالم بعد أن طال بريقها بعض القضايا السلبية، تصنف في خانة الفساد، الذي يعتبر ضمن أول الأولويات التي يجري التصدي لها، خاصة من خلال تطبيق نظام إعلامي جديد يرسي الشفافية ويكرس الوضوح بشأن عمل مختلف مراكز القرار.
بالمناسبة ينبغي الإشارة إلى البعد التضامني والاجتماعي الذي يترجم عن طريق تمويل عمليات تتعلق بترقية الصحة والتكوين في الولايات الجنوبية حيث يكون للمواطنة الاقتصادية معنى بمرافقة الساكنة المحلية في تحسين ظروف المعيشة وتوفير الشغل عن طريق التكوين المهني لفائدة أبناء المناطق المعنية انسجاما مع التوجهات الكبرى للدولة الجزائرية في تحقيق تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية بمعايير اقتصادية ترتكز على مناجمنت حديث يجدي إدماج مكونات النمو الاقتصادي والبشري.   

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024