يشكل العقار الصناعي ولا يزال معضلة مزمنة تعيق انتقال الأداء الاقتصادي إلى مرحلة أكثر نجاعة في انجاز أهداف النمو وفقا للتوجهات التي سطرتها الدولة لبناء اقتصاد إنتاجي متنوع لا مجال فيه سوى للاستثمار المنتج للقيمة المضافة. فهو لا يزال من بين أبرز الانشغالات التي يعبر عنها المتعاملون على كافة المستويات الوطنية والمحلية. في إطار تنمية النقاش حول هذا الموضوع ومسائل تخصّ واقع ومستقبل المؤسسة الجزائرية يقدم عبد الرحمان هادف بلسان الخبير في الشأن الاقتصادي والرئيس السابق لغرفة التجارة والصناعة لـ»التيطري» رؤية لتجاوز الوضعية نحو أكثر مرونة وتفاعلية لتمكين اكبر عدد ممكن من المتعاملين وأصحاب المشاريع من التموقع ضمن المنظومة الاقتصادية. لذلك، يدعو هادف عبد الرحمان منطلقا من تجربته الميدانية في عالم المؤسسات، إلى إحداث مجلس اقتصادي محلي على مستوى الولايات يشمل كل الفاعلين لبناء مسار الانتقال الاقتصادي المطلوب من تهيئة بوابة الوصول إلى العقار الصناعي. وإعادة بعث مسألة إنشاء بنك مخصص للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة مع عصرنة الإدارة المكلفة بالشأن الاقتصادي لتعزيز القدرات خاصة باتجاه انجاز نموذج سليم للشراكة بين المؤسسات الجزائرية العمومية الخاصة حول مشاريع ذات جدوى تضاعف من القدرات الوطنية لمواجهة المنافسة الخارجية. وفيما يلي مضمون الحوار:
«الشعب»: لا يزال العقار الصناعي حديث الأوساط الاقتصادية بحثا عن معالجة نهائية للملف الذي اتخذت بشأنه سلسلة إجراءات حكومية، لماذا لا يزال هذا الملف يثير الجدل بينما التحدّيات تتزايد من كل جهة محليا وعالميا؟.
هادف عبد الرحمان: مشكل العقار الصناعي يتعلّق بالإطار التشريعي وجانب التسيير، لذلك ينبغي بداية مراجعة الإطار القانوني المتعلق بإنشاء وتسيير المناطق الصناعية ومناطق النشاطات باعتماد هيئات متخصصة. أكثر من هذا من المفيد إقامة شراكة بين القطاعين العام والخاص لإحداث مناطق صناعية جديدة وتسييرها وفقا لمعايير اقتصادية ذات نجاعة. هذا هو المشكل الأول بالنظر للواقع المزري وغير اللائق للمناطق الصناعية الحالية، حيث توجد مناطق لا تحمل سوى الاسم، لذلك يستوجب وضع سياسة تحدّد معالم ورقة طريق لمعالجة ملف العقار الصناعي.
يجري الحديث عن انجاز 52 حظيرة صناعية وتمّ إطلاق عدد محدود جدا من مشاريع هذا البرنامج في غياب رؤية دقيقة واستشرافية. أعتقد أن رسم الخارطة الاقتصادية يجب أن يضع في لوحة قيادة مشاريع المناطق الصناعي تضع المعطيات والمؤشرات وكل المعطيات الخاصة بالقدرات الموجودة لإحداث أقطاب إقليمية تسمح للمتعاملين والمستثمرين بضبط خياراتهم.
يوجد جانب آخر يثير النقاش يتعلق بالهيئة التي تتكفل بتسيير المناطق الصناعية، علما أن الخيار المركزي من خلال وكالة «أنيراف» لا يفي بالغرض بالنظر للانعكاسات التي تترتب عن هذا الوضع وبالأخص الممارسات البيروقراطية وثقل الاجراءات وتعقيداتها، لذلك أمر طبيعي أن تكون هناك صعوبات في جذب المستثمرين الحقيقيين وإثارة اهتمامهم.
في ضوء الواقع السلبي والتطلعات المشروعة وقصد مواجهة الوضعية وإعادة تصحيح مقاربة العقار الصناعي، ادعو الى إنشاء مجلس اقتصادي على مستوى الولايات، وتكون البداية بالولايات التي تم تسطير مناطق صناعية جديدة بأقاليمها، ويكون هذا المجلس تحت سلطة والي الولاية، غير أن تشكيلته يجب ان تكون موسّعة بحيث تشمل جميع الفاعلين الاقتصاديين المحليين.
مثل هذا الإطار يكون فعالا ولديه القدرة على معالجة المشاكل التي تثار حول توفير العقار من خلال إمكانية اختيار الاستثمارات وتحديد الفروع التي يراهن عليها للنهوض بالنمو وتنشيط التشغيل، والتخلص من صيغة العمل التقليدية التي يميزها الارتجال والعمل بعيدا عن ضبط الخيارات دون الرجوع إلى معالم دراسات مسبقة.
لذلك يجب أن يكون للقرار المحلي في الحقل الاقتصادي ثقله في توضيح الخارطة الاستثمارية وهو ما يقوم به المجلس المشار إليه على اعتبار انه قريب من الواقع ويلمّ بالانشغالات والطموحات. وأكثر من هذا لماذا لا يمنح تسيير تلك المناطق الصناعية المحلي لغرف التجارة والصناعة مثلما هو معمول به في بلدان عديدة عبر العالم أو بالشراكة مع متعاملين خواص لإعطاء دفع للملف وبرأيي هذا أمر مستعجل.
بنك تمويل الاستثمار
للمؤسسات المصغرة
ماهي المؤسسة التي نريد في ظل زخم كل هذه التحولات؟
نعلم جميعا أن تطوير المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تمتاز بالمرونة يمر حتما عبر التخلص نهائيا من مشكلة العقار، وأتساءل لماذا لا تؤخذ تجارب بلدان متقدمة في وضع المؤسسة في مركز أفضل، بحيث لا تنشغل إطلاقا بمشكلة العقار وتعقيدات إجراءات الوصول إليه، وإنما تدخل المؤسسة وصاحب الاستثمار مباشرة في صلب المهمة الإنتاجية من خلال سهولة الحصول على موقع في المناطق الصناعية فيكون جاهزا ومهيئا لاستقبال جهاز الانتاج، ذلك أن المؤسسة دورها الإنتاج وليس بناء المصنع، ويكفي النظر لما هو موجود في ايطاليا ـ اسبانيا، وأثيويبا في قارتنا السمراء فهي أمثلة جيّدة يمكن الاقتداء بها في هذا الموضوع.
وفقا لمثل هذا النموذج يمكن التكفل بالطلب على العقار مع احترام الخصوصيات المحلية لكل منطقة، فهناك مناطق تتميز بالطابع الفلاحي وأخرى بالسياحة وأخرى بالصناعة التحويلية ولا يمكن أن تبقى عرضة لمشاريع تتعارض مع تلك الخصوصية فهذا غير طبيعي ولا يحقق الأهداف المسطرة للنمو.
غير انه على المؤسسة أن تكون على درجة من التأهيل بالنسبة لإمكانياتها وجهازها الإنتاجي كما يجب أن تكون الإدارة المعنية بالاستثمار على نفس المستوى من النجاعة، ذلك أن الملف الاقتصادي ليس أمرا إداريا تقليديا وإنما يتطلب درجة عالية من الجاهزية. لقد حان الوقت لأن تمر الإدارة الاقتصادية إلى مستوى جديدا من العصرنة واعتماد معايير الحوكمة الفعالة في تناول ومعالجة الملفات الاقتصادية.
في هذا السياق، أشير أيضا إلى ملف البنوك كونه ورشة اخرى تستحق المتابعة واثارة النقاش في العمق انطلاقا من مبدأ أن المؤسسة تحتاج إلى تمويل ملائم عن طريق اعتماد منهجية الذكاء المالي، بمعنى أن الاستشارة البنكية مسألة هامة تتجاوز الحصول على القرض نفسه، فمرافقة البنك للمستثمر عامل حيوي حتى يكون القرض مطابقا لطبيعية الاستثمار في زمن لم يعد نظام التمويل يواكب الحركية والتغيرات، علما أننا تحدثنا سابقا عن أهمية إنشاء بنك للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة ولا يزال يحذونا الأمل في وجود قريبا شبكة بنكية مخصصة للاستثمار وتمويل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
المناولة واللوجيستيك مجالان يمكن أن يحتضانا الشراكة عامة وخاصة
الحديث عن شراكة بين المؤسسات العمومية ونظيرتها الخاصة يعود ويختفي، وحصلت قراءات مختلفة في الساحة أثارت تخوفات وتحفظات، ما هوتصوركم لهذا المسار؟
@ في الواقع توجد فروع اقتصادية يمكن أن تكون أرضية الانطلاق في تجسيد مفهوم صحيح للشراكة عام خاص مثل مؤسسات التصنيع، ذلك أن هناك مؤسسات خاصة لديها قدرات ويمكنها أن تحصل على أصول في مؤسسات عمومية لديها قدرات نائمة وتجنيدها في بناء معادلة النمو بالمعنى الاقتصادي الصحيح، كما يمكن الرهان على المناولة واللّوجيستيك، باعتبارهما مجالان قابلان لاحتضان شراكة من هذا النوع.
حول هذه المسألة تفجر نقاش لكن لم تفتح ملفات ملموسة وهو ما يجب أن يتم اليوم قبل الغد بطرح مشاريع عن طريق الإعلان عن إبداء الاهتمام لجلب المؤسسات التي تبحث عن آفاق استثمارية جديدة، وهذا ما يمكن أن يبادر به المجلس الاقتصادي الجهوي إذا ما تم اعتماده كفضاء يستوعب القدرات التي تزخر بها كل منطقة وفي مقدمتها نسيج معتبر من المؤسسات والمقاولات والمتعاملين الذين يتطلعون للعثور على فرص الاستثمار واقصد الذين لديهم قناعة بالعمل لصالح الاقتصاد الوطني.
بالمناسبة تعتبر السياحة مجالا جذابا يمكنه أن يشكل مساحة أخرى لانجاز أهداف الاستثمار المنتج للقيمة المضافة والمحقق لإيرادات بالعملة الصعبة، وجرى مؤخرا تنظيم تظاهرة دولية، كيف يمكن تحقيق ذلك بالنظر لواقع المعطيات في السوق؟
@ الملاحظ أننا لا زلنا نعمل بنفس الأسلوب، بينما يتطلّب الوضع إجراء تقييم لكل العمليات التي سبق القيام بها بعنوان النهوض بالسياحة. المعروف أن السياحة مجال سريع التحول، ولا يكسب الرهان بانجاز فندق أو تهيئة شاطئ او رفع عنوان جبل، وإنما يكون رفع التحدي من خلال اعتماد خيار المسالك السياحية، واكتساب يد عاملة محترفة ولها تأهيل ضمن إستراتيجية ارتكز على الابتكار والتجديد لمواكبة التنافسية.
لا تزال سياحتنا تقليدية ولذلك يجب كسر تلك الذهنية بالتوجه إلى خيارات تستجيب للطلب في السوق وبأقل كلفة للنهوض بقطاع يمكنه أن يقدم بديلا كبيرا لتراجع الإيرادات.
ومن اجل ذلك نحن ملزمون بالانفتاح أكثر على الشراكة الأجنبية لبعث السياحة المحلية التي لا مجال للنهوض بها سوى بكسب معركة الإتقان التي لا تزال ضعيفة.
يجب الاعتراف بالنقائص خاصة بالنسبة لجذب السياح الأجانب، وعليه أدعو إلى إطلاق نقاش حول بناء رؤية جديدة للسياحة تمنح ضمنها مكانة كبيرة للقطاع الخاص. وأوضح هنا لا يجب التركيز على انجاز المنشآت القاعدية مثل المركبات الضخمة والفنادق كموضة للمرحلة وإنما الحل الأمثل في إنشاء سياحة الخدمات والعروض الملائمة للطلب، ذلك أننا بحاجة إلى إرساء الإتقان في تسويق الخدمة السياحية.
بالمناسبة نتطلع للقاء حول السياحة الصحراوية سوف تنظمه الغرفة الجزائرية للتجارة والصناعة بالتعاون مع جمعية غرف التجارة لمنطقة المتوسط في الأشهر المقبلة ليكون بمثابة جسر للعبور بالسياحة المحلية إلى السوق العالمية، حيث تحقق وجهات مكاسب لا تعرف حدودا.
ولإدراك التأخر في هذا المجال يجب أن يتم إشراك جميع المنظمات الدولية ذات الثقل في سوق السياحة للحصول على المرافقة والاستفادة من التجارب من اجل إعادة التموقع في المشهد الإقليمي والعالمي للسياحة.