يرفـع رهـان بناء الكفاءات المقتدرة

التكوين المهني.. رافعة استراتيجيـة للاقتصـاد المنتـج

عبد الهادي. ش

 التركيـز على المهـارات العمليـة لمواكبــة تحوّلات سـوق العمــل
 16 مركـز امتيــاز تقدم تكوينـا عالي الجـودة في قطاعــات استراتيجيــة

في خضم التحوّلات الكبرى التي يشهدها الاقتصاد الوطني والعالمي، تواصل الجزائر رسم معالم سياسة تنموية جديدة، تتمحور حول بناء اقتصاد منتج، متنوع ومستدام، لا يرتكز فقط على استغلال الموارد الطبيعية، بل على استثمار المورد البشري باعتباره المحرّك الأول لأي نهضة اقتصادية حقيقية. وفي هذا الإطار، يبرز قطاع التكوين والتعليم المهنيّين كأداة فعّالة في هندسة هذا التحول، بما يشهده من إصلاحات عميقة ومبادرات مبتكرة بقيادة وزارة التكوين والتعليم المهنيّين، الهادفة إلى تعزيز تنافسية الاقتصاد الوطني وخلق فرص شغل مستدامة لفئة الشباب.

تستعد وزارة التكوين والتعليم المهنيّين لإطلاق دورة أكتوبر 2025 بإصلاح هيكلي غير مسبوق، يتمثل في اعتماد المقاربة بالكفاءات بشكل كلي، وإلغاء النظام السداسي التقليدي الذي لم يعد قادرا على مواكبة تحولات سوق العمل. هذا التحول في فلسفة التكوين يستجيب لحاجة ملحّة في تطوير منظومة إنتاج الكفاءات لا الشهادات، من خلال التركيز على المهارات العملية التي تؤهّل المتكوّن للاندماج السلس والفوري في مناصب الشغل.
المقاربة الجديدة تقوم على تقييم مستمر وشامل للمتكوّن، بما يعكس حقيقة أدائه وتطوره، بدلًا من الاقتصار على امتحانات فصلية تقيس المعرفة النظرية فقط، وقد خصّصت الوزارة شهر سبتمبر المقبل لتكوين مكوني القطاع عبر برامج مكثفة تشمل التمكّن من المقاربة بالكفاءات، واستعمال الوسائط الرّقمية، ومواكبة التطورات التكنولوجية الحديثة، إلى جانب تقوية كفاءات المكونّين في اللّغة الإنجليزية، باعتبارها لغة عمل في عالم اليوم.

الرّقمــي الشامـل..

في ظل الرّقمنة المتسارعة، حرصت الوزارة على اعتماد مبدأ “دخول تكويني بدون ورق”، من خلال منصة “takwin.dz” لتسهيل عملية التسجيل والتوجيه، وضمان الشفافية وسرعة الإجراءات، فضلًا عن منصة ثانية “tamhin.dz” لربط المتربّصين بالمؤسّسات الاقتصادية في إطار التمهين، في خطوة ذكية نحو تجسيد الاندماج بين التكوين وسوق العمل.
كما تمّ تطوير خطة وطنية لتوسيع التكوين عن بعد، تستهدف 30 ألف متكوّن، إلى جانب إعداد 100 محتوى رقمي جديد وتكوين ألف مؤطّر في التعليم الإلكتروني. وتشرف الوزارة أيضًا على 16 مركز امتياز سيضطلعون بمهمة تقديم تكوين عالي الجودة في قطاعات ذات أولوية، مثل الصناعة والطاقة المتجدّدة والتكنولوجيات الحديثة.

تكوين موجّه نحو قطاعات النمو والابتكار

 من خلال دراسة معمّقة للمحيط الاقتصادي، أطلقت وزارة التكوين المهني عروضًا جديدة تركّز على القطاعات المنتجة، لاسيما الصناعة، البناء، الأشغال العمومية، الرّي، المهن الرّقمية والفلاحة والصّناعات الغذائية، مع تقليص تدريجي لعروض التكوين في التخصّصات الإدارية والتسيير، التي لا تتماشى مع الرؤية الاقتصادية الجديدة للدولة.
هذا التوجيه الذكي لعروض التكوين، يُعدّ ترجمة ملموسة لرغبة الدولة في توجيه شبابها نحو المهن ذات القيمة المضافة، وخلق طاقات بشرية فاعلة وقادرة على المساهمة في تطوير اقتصاد حقيقي، قائم على التصنيع والتجديد التكنولوجي.

دعم خاص لذوي الاحتياجات الخاصة

 وفي تجسيد فعلي لمبادئ الإنصاف والتضامن، أصدرت وزارة التكوين بالتنسيق مع وزارتي التضامن والعمل منشورًا وزاريًا مشتركًا يسمح لذوي الاحتياجات الخاصة بمواصلة الاستفادة من المنحة الجزافية للتضامن والتغطية الاجتماعية طوال فترة التكوين، بعدما كانوا يُقصون من ذلك سابقًا. هذه الخطوة الجريئة ستمكّن الآلاف من الشباب المعاقين من متابعة التكوين دون عراقيل، وتُعزّز إدماجهم الاجتماعي والمهني، باعتبارهم جزءًا لا يتجزّأ من مسيرة البناء الوطني.

التكوين من أجل الريادة

 لم تعد نظرة الدولة إلى التكوين المهني مقتصرة على توفير يد عاملة، بل تحوّلت إلى رؤية شمولية تدمج التكوين مع ثقافة المقاولة وإنشاء المؤسّسات الناشئة. في هذا الصدد، شهدت ولاية المغير تنظيم دورة تكوينية لفائدة 24 شابا من خريجي التكوين المهني في مجال ريادة الأعمال، تحت إشراف خبراء من الوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية.
وقد تمّ التركيز خلال هذه الدورة على محاور استراتيجية مثل التخطيط، إدارة الموارد، الفئات الجبائية، وسبل التمويل، كما تمّ منح المشاركين شهادات تخول لهم الاستفادة من الدعم المالي والمرافقة الميدانية في مراحل إنجاز مشاريعهم. وهو ما يشكّل نقلة نوعية في العلاقة بين التكوين والتشغيل، ويدفع باتجاه خلق منظومة مستدامة لخلق الثروة، بقيادة خريجي مراكز التكوين المهني.

مراكز الامتياز.. استثمار في العمق الصّناعي

 ومن بين أبرز الإنجازات التي تفتخر بها وزارة التكوين والتعليم المهنيّين، استحداث مراكز امتياز وطنية، من بينها مركزان في وهران متخصّصان في الصناعات الحديدية والميكانيكية، وصناعة السيارات، بالتعاون مع وزارة الصناعة. وقد تمّ تزويد هذه المراكز بتجهيزات حديثة وتعيين مكوّنين ذوي كفاءة عالية، ما سيسمح بتخريج دفعات متخصّصة ومطلوبة في سوق العمل.
هذا الخيار يعكس وعي الدولة بأهمية التكوين المتخصّص في دعم الصناعات الوطنية، خصوصًا في ظل مساعي الجزائر لاستعادة مكانتها كدولة صناعية صاعدة.

تنسيق جهوي وتكامل مؤسّساتي..

 استضافت وهران ندوة جهوية موسّعة ضمّت مديري قطاع التكوين من عشر ولايات غرب البلاد، لمناقشة قضايا التكامل البيداغوجي، وتوظيف الخرّيجين، وتكوين المكوّنين. وقد ركّز اللّقاء على تنسيق الموارد، تبادل التجارب، وربط العروض التكوينية بالخصوصيات الاقتصادية المحلية، ما يعزّز من قدرة القطاع على تلبية حاجيات كل جهة من جهة، وضمان الانسجام الوطني من جهة أخرى.

في قلب أهداف التنمية المستدامة

 من خلال لقاء الوزير ياسين المهدي وليد مع منسّقة الأمم المتحدة بالجزائر، برز حرص الدولة على تعزيز الشراكات الدولية لتطوير القطاع، سواء عبر تبادل الخبرات، أو الاستفادة من برامج الدعم الأممية المرتبطة بالتنمية المستدامة، ما يمنح القطاع بعدًا دوليًا، ويضعه في قلب الأجندات العالمية لبناء اقتصاد قائم على المهارة والمعرفة.

ديناميكية متسارعة ورؤية واضحة

 إنّ المتأمّل في ديناميكية التكوين والتعليم المهنيّين خلال السنوات الأخيرة، يدرك أنّ الجزائر انتقلت من مرحلة الإصلاح النظري إلى مرحلة التفعيل الواقعي، عبر مشاريع ملموسة واستراتيجيات دقيقة تأخذ بعين الاعتبار تحولات السوق، وتضع الشاب في قلب التنمية بدل أن يكون مجرّد رقم في قوائم البطالة، فالوزارة لا تكتفي بوضع السياسات، بل تُتابع تنفيذها ميدانيًا، عبر تأطير وتكوين ومرافقة وتحديث دائم، ما يُعزّز مكانة التكوين المهني كقوة اقتراح في الاقتصاد الوطني، وشريك فعّال في معركة السيادة الاقتصادية.ولا شكّ أنّ استمرار هذه الديناميكية، مع المتابعة الميدانية والتقييم المنتظم، سيُثمر على المدى القريب، جيلا من الكفاءات المؤهّلة، القادرة على إحداث التحول المنشود، والعبور بالجزائر نحو اقتصاد أكثر إنتاجية واستقلالية واستدامة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19841

العدد 19841

الثلاثاء 05 أوث 2025
العدد 19840

العدد 19840

الإثنين 04 أوث 2025
العدد 19839

العدد 19839

الأحد 03 أوث 2025
العدد 19838

العدد 19838

الجمعة 01 أوث 2025