عرفت الجزائر العاصمة في اليومين الأخيرين من شهر رمضان، ما يشبه نزوح جماعي، ميزته الاعداد الهائلة من المواطنين الذين توافدوا على محطة نقل المسافرين بالخروبة للالتحاق بعائلاتهم لقضاء عيد الفطر المبارك مع ذويهم، بعدما أبعدتهم المهن التي يزاولونها أياما وشهورا.
بعد أن تحتم عليهم صيام رمضان في العاصمة وحالت التزاماتهم المهنية دون تمكنهم من معايشة نكهة الشهر الفضيل في الجو العائلي الفريد، أعلن مواطنو مختلف الولايات تعليق نشاطاتهم بصفة نهائية في ٢٨ و٢٩ من رمضان، وشحن حقائبهم بالحافلات التي توصلهم إلى أهاليهم وذويهم معتبرين أن نكهة العيد مع العائلة شيئ مقدس يستحيل تفويته أو إضاعته إلا لأسباب قاهرة.
ومن هؤلاء من فضل التوجه إلى مقصده في الصباح الباكر، لاقتناص اللحظات الأخيرة من شهر الصيام على مائدة إفطار العائلة، وإن كلفهم الأمر ساعات من السفر الشاق خاصة مع موجة الحر التي تجتاح الولايات منذ بحر الأسبوع، بينما فضل آخرون السفر ليلا تفاديا للمشقة.
توجهت «الشعب» على الساعة الـ ٢٠,٣٠ مساء، ليلة الثلاثاء، إلى محطة نقل المسافرين بالخروبة، ووقفت على الحركية الكثيفة بدءا من مداخلها الرئيسية، حيث تصل سيارات الأجرة تباعا لوضع الأعداد الكبيرة من المسافرين، الذي اصطفوا في طوابير للدخول إلى أكشاك شراء تذاكر السفر وقاعات الانتظار قبل الركوب.
تغطية أمنية محكمة
وتحسبا لهذه الحركية، اتخذت مصالح الأمن كافة الإجراءات لتأمين محطة المسافرين، وانتشرت عناصر الشرطة في جميع المداخل، حيث يقومون بتفتيش ومراقبة دورية قصد ضمان أحسن الظروف لاستقبال المسافرين وتوجههم إلى وجهاتهم النهائية.
ولدى اقترابنا من مكتب الشرطة، المتواجد في المدخل الرئيسي، أكد لنا أحد رجال الأمن أن التغطية الأمنية مضمونة ٢٤ / ٢٤ ساعة ويجري السهر على تأمين المكان. وبشأن أعداد المسافرين، قال إنها كبيرة فعلا وتختلف تماما عما كان عليه الحال في الأيام السابقة، وهذا أمر طبيعي ويتكرر كل سنة، لأن الجميع يتوجهون لقضاء العيد مع أسرهم ودورنا توفير الأجواء المناسبة لهم قال محدثنا.
الحجز مسبقا...
يدرك المسافرون أن الأيام الأخيرة من شهر رمضان يميزها الاكتظاظ، وتكون فرصة الظفر بتذكرة السفر صعبة للغاية أو منعدمة، لذلك يلجأ هؤلاء إلى الحجز مسبقا بيوم قبل موعد الرحلة، أو صباحا تحسبا للتوجه ليلا، بينما تنقذ مسافرو اللحظات الأخيرة وساطات بعض المعارف.
وصرح لنا بعض المسافرين عن هذا الأمر، قائلين أن أيام العيد تفرض أخذ احتياطات مسبقة رغم ارتفاع أعداد الحافلات وتوفرها، لكننا مجبرون على الحجز مبكرا تفاديا لأي مفاجأة غير سارة قد تدفعنا مكرهين إلى السيارات غير القانونية (فرود)، الذين يصطادون هذه الفرص الذهبية.
بينما أكد لنا أصحاب الحافلات أنهم يخروجون من محطة الخروبة وكل المقاعد مملوءة هذه الأيام، بينما كان الأمر مختلفا في الأيام الأخرى من رمضان أين تقل الحركية، بسبب تفادي الناس لمشقة الطريق.
«الخبزة» هي من جاءت بنا إلى العاصمة
كانت الفرحة بادية على من صادفناهم، فقضاء العيد مع العائلة والأحباب أمر لا مثيل له فهي مناسبة للتلاقي وأخذ قسطا من الراحة بعد فترات الغياب والعمل، والتأسف في ذات الوقت عن دوام ابتعادهم عن المنزل.
وقال نبيل في تصريح لـ «الشعب»، إن ما يدفعنا للمجيء إلى العاصمة ليس رغبة في تغيير الأجواء أو السياحة، ولكنها (الخبزة)، مضيفا منذ ١٩٩٥ وأنا في العاصمة واستطعت توفير بيئة عمل ملائمة وبناء علاقاتي الخاصة، لذلك فأنا مجبر على الاستمرار رغم أني أفضل العودة إلى مسقط رأسي والاستقرار من كافة النواحي الاجتماعية والنفسية.
بينما يرى الشباب وخاصة المراهقون الذي غادروا مقاعد الدراسة في سن مبكرة في العاصمة، مفرا من الانتقادات ومطالب تحمل المسؤولية من قبل الأولياء خاصة محدودي الدخل، كما تعتبر المكان الأفضل لهم لتعلم مهنة وتحصيل مصدر دخل، والتعرف على المدن الكبرى والتعلم منها الشيء الكثير.
نعمة السيار شرق ـ غرب
مهما طالت ساعات الرحلات لكنها أقل بكثير مما كان عليه الحال قبل انجاز الطريق السيار شرق ـ غرب، ويجمع كل المسافرين على الفائدة العظيمة لهذا المشروع، خاصة بالنسبة للولايات التي يمر عبرها على غرار سطيف، ميلة وقسنطينة بالجهة الشرقية للبلاد، وبعدما كانت المدة مثلا إلى سطيف ٥ ساعات أصبحت ساعتين و٤٥ دقيقة وهو فارق مهم.
وسمح مشروع القرن كما يسمى، باختصار المسافات وتوفير خدمات عديدة على مستوى محطات الوقود التي أنجزتها نفطال بمعايير دولية تجمع بين الخدمة والراحة، وتعتبر محطة «البابور» بولاية سطيف أحد هذه النماذج المهمة التي أضفت قيمة خاصة على الطريق السيار.
..على الطريق إلى جيجل
السفر ليلا في رمضان، وعكس ما يتصور البعض على انه بالغ الصعوبة، فهو في حقيقة الأمر، رحلة ممتعة ميزتها الخاصة السحور على جنبات الطريق في الهواء الطلق، هذا ما رصدته «الشعب».
ولدى توجهنا إلى ولاية جيجل التي تبعد عن العاصمة بحوالي ٤٠٠ كلم، في حافلة غادرت المحطة على الساعة ٢١,٣٠، شاهدنا الأجواء الرمضانية بكل من ولايتي البويرة وبجاية، وتزامن مرورنا بالأولى مع صلاة التراويح، حيث تعالت تراتيل السور الأخيرة للقران الكريم، من مكبرات الأصوات بالمساجد، أما المقاهي والأماكن العامة فغصت بالساهرين ببجاية.
ولم تتوقف الحافلة كما جرت العادة في «مايو» بالبويرة، لتناول الوجبات وأخذ قسطا من الراحة، بل كانت محطتها هذه المرة بالكورنيش الجيجلي الساحر، وبالضبط بمنطقة «تازة»، وتزامن توقفها مع الساعة الـ ٣ صباحا أي قبل ساعة و١٠ دقائق عن موعد الإمساك، وكان تناول الشواء على ضفة البحر الذي ميزه السكون التام متعة حقيقة، وتسجل ضمن اللحظات الخاصة من رمضان.
ستصاب العاصمة خلال الايام الثلاثة لعيد الفطر المبارك بشلل نصفي أو تام، حيث ستغلق العديد من المحال التي تعود لمن ينحدرون من الولايات الأخرى، وستعود اليها الحياة تدريجيا بعد نهاية نكهة العيد ورنة جرس العودة إلى العمل الذي كان السبب الرئيسي في هجرتهم الى عاصمة البلاد.