ممارسـات مشبوهــة تحت مجهر القانـون الدولي
حينما تُرفع الشعارات في أروقة الأمم المتحدة عن حماية حقوق الإنسان وصون الشرعية الدولية، يقف في الصفوف الأولى من يعلنون الولاء لهذه المبادئ، ويقدّمون أنفسهم أوصياء على القانون الدولي. فرنسا، بصفتها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن، لطالما قدّمت نفسها كصوت العقل في النزاعات الدولية، وكمُدافع عن الشعوب التي لم تنل بعد حقها في تقرير المصير.
الواقع الميداني يكشف تناقضًا صارخًا بين الخطاب والممارسة، وبين الالتزام المُعلن والواقع العملي. ففي الصحراء الغربية، التي لاتزال مصنفة كإقليم غير متمتع بالحكم الذاتي، تكشف تقارير دولية موثوقة عن تورط شركات فرنسية في أنشطة اقتصادية داخل الأراضي المحتلة، في تحدٍّ مباشر للقانون الدولي، وخرق واضح لقرارات محكمة العدل الأوروبية التي أبطلت أي اتفاقيات تجارية تشمل الإقليم دون موافقة شعبه.
هذا التناقض يضع فرنسا أمام سؤال أخلاقي وسياسي حاد: كيف يمكن لدولة تُسوّق نفسها كحامية للشرعية الدولية أن تمارس، أو تسمح بممارسة ما يناقض جوهر تلك الشرعية؟ وكيف يمكنها أن تدين انتهاكات في مناطق أخرى، بينما تصمت أو تغض الطرف حينما تكون مصالحها الاقتصادية في صلب الانتهاك؟
التقارير الحقوقية، وعلى رأسها ما نشرته منظمة Western Sahara Resource Watch، كشفت أن شركات فرنسية مثل: Engie وOlvea وغيرهما، تنفذ مشاريع كبرى في مدن الصحراء الغربية المحتلة، مثل الداخلة والعيون، بالشراكة مع مؤسسات مغربية رسمية وشركات تابعة للمخزن.
وفي سياق متصل، تعمل شركة Engie على مشروع لتحلية مياه البحر في الداخلة، يخدم أساسًا مستوطنات وأنشطة زراعية وصناعية مرتبطة بالمغرب، وهو ما يعد استغلالًا مباشرًا لموارد الإقليم دون الرجوع إلى الشعب الصحراوي. كذلك، أقرت شركة Olvea بوجود نشاطها التجاري في المنطقة، فيما وُجهت اتهامات لسلاسل توزيع فرنسية كبرى، منها Carrefour، بتسويق منتجات زراعية من الإقليم على أنها «مغربية»، في تضليل واضح للمستهلكين الأوروبيين.
في نفس السياق، أعلنت منظمات داعمة لحق تقرير المصير للشعب الصحراوي، منها مركز التحليل الخاص بالصحراء الغربية (CASO)، نيتها رفع دعاوى قضائية في المحاكم الفرنسية، بداية من جانفي 2026، ضد هذه الشركات، مستندة إلى أحكام محكمة العدل الأوروبية التي أكدت بطلان الاتفاقيات التجارية بين الاتحاد الأوروبي والمغرب إذا شملت أراضي الصحراء الغربية ومنتجاتها دون موافقة ممثلي الشعب الصحراوي. هذه الخطوة القانونية تمثل اختبارًا حقيقيًا لمدى التزام فرنسا بتطبيق القانون الدولي على أراضيها، لاسيما حين يتعلق الأمر بمصالح شركاتها العملاقة.
بالإضافة إلى ذلك، يرى مراقبون أن هذا الانخراط الفرنسي الاقتصادي في الإقليم المحتل ليس مسألة استثمارية بحتة، بل يعكس استراتيجية أوسع مرتبطة بالتراجع الحاد في النفوذ الفرنسي في إفريقيا. فبعد خسارة مواقع تقليدية في دول الساحل وغرب إفريقيا لصالح قوى أخرى كروسيا والصين وتركيا، يبدو أن باريس تبحث عن «ممر آمن» للعودة إلى الساحة الإفريقية عبر المغرب، حتى وإن كان ذلك على حساب مبادئ القانون الدولي وحق الشعوب في تقرير المصير.
كذلك، فإن هذه السياسة تحمل رسالة مزدوجة؛ فهي من جهة تمنح المغرب دعمًا اقتصاديًا غير مباشر يساهم في تثبيت سيطرته على الإقليم، ومن جهة أخرى تمنح فرنسا موطئ قدم اقتصادي واستراتيجي في منطقة غنية بالموارد، مثل الفوسفات ومناطق الصيد البحري. غير أن هذه المكاسب المادية قصيرة الأمد قد تتحول إلى عبء سياسي وأخلاقي طويل المدى، خاصة إذا نجحت الدعاوى القضائية في إدانة هذه الممارسات، أو إذا تصاعدت الضغوط الشعبية والحقوقية داخل فرنسا والاتحاد الأوروبي.
وفي تحليله للموضوع، أكد الدكتور بوحاتم مصطفى، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، في تصريح «للشعب» أن هذه الأنشطة الاقتصادية الفرنسية في الصحراء الغربية تمثل «إخلالًا مزدوجًا» بالتزامات باريس الدولية؛ فهي من جهة تنتهك قرارات الأمم المتحدة، التي تؤكد على الوضع القانوني الخاص بالإقليم. ومن جهة أخرى تتجاهل بشكل فاضح أحكام القضاء الأوروبي الذي أقر بوضوح عدم شرعية أي نشاط اقتصادي في الصحراء الغربية دون موافقة ممثلي شعبها.
وأضاف الدكتور بوحاتم، أن «فرنسا بهذا السلوك تضع نفسها في موضع الدولة التي تستخدم القانون الدولي كأداة انتقائية، تطبقه حين يخدم مصالحها، وتتجاهله حين يتعارض مع هذه المصالح»، مشيرًا إلى أن ذلك يضعف مصداقيتها على الساحة الدولية ويقوّض خطابها الأخلاقي الذي لطالما حاولت الترويج له.
بالإضافة إلى ذلك، يرى بوحاتم أن هذا التناقض الفرنسي قد تكون له تداعيات استراتيجية على المدى البعيد، ليس فقط في علاقتها مع دول جنوب المتوسط، بل أيضًا في عموم القارة الإفريقية، حيث باتت الشعوب أكثر وعيًا بدور الشركات متعددة الجنسيات في استنزاف الموارد، وأكثر جرأة في محاسبة الحكومات الداعمة لها.
وفي المحصلة، فإن استمرار هذه الأنشطة الفرنسية في الصحراء الغربية المحتلة، يعكس بوضوح حالة الانفصام بين خطاب باريس السياسي وممارساتها الاقتصادية، ويطرح تساؤلات جادة حول قدرتها على لعب دور الوسيط النزيه في القضايا الدولية. كما يضعها أمام مأزق أخلاقي وسياسي قد يزداد تعقيدًا إذا ما تحولت الدعاوى القضائية المرتقبة إلى أحكام تدين هذه الشركات، وهو ما قد يفتح الباب أمام موجة جديدة من الضغوط الداخلية والخارجية لإنهاء هذا التواطؤ الاقتصادي مع الاحتلال المغربي.