التصنيف مؤشر على تحوّل عميق في المقاربة التنموية
ضبـط الواردات هو توجيه الموارد لخدمة السيادة الاقتصادية
بناء هيكل اقتصادي لا يقوم على ريع المحروقات بل على الإنتــاج والاستثمار المحلـي
في زمن تعصف الأزمات الاقتصادية بمعظم دول العالم، وتضيق فيه هوامش النمو بفعل الحروب التجارية والأزمات الجيو-سياسية، يأتي خبر إعادة تصنيف الجزائر ضمن فئة الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل، للسنة الثانية على التوالي، من قبل مجموعة البنك الدولي، ليكون برهانا على حصافة الخيارات الجزائرية، ويطرح التحولات الجارية داخل المنظومة الاقتصادية الجزائرية لتكون موضوع درس عميق للتحوّل البنيويّ الذي يقوده رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، في صمت وبعيدًا عن ضجيج الشعبوية.
يرى أستاذ الاقتصاد الكلي، الدكتور بن حملاوي توفيق، أن ارتقاء الجزائر في التصنيف لا يجب أن يُفهم على أنه نتيجة ظرفية أو ثمرة مداخيل نفطية ظرفية، بل هو مؤشر على بداية تحوّل عميق في مقاربة الدولة للتنمية الاقتصادية؛ تحول ينبع من إرادة سياسية واضحة في بناء اقتصاد مستدام ومتنوع. وأوضح الدكتور في تصريح لـ «الشعب»، أن «ما يقوم به رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، منذ توليه الحكم، هو إصلاح اقتصادي حقيقي يتجاوز التدابير الظرفية أو القرارات التقنية المحدودة، نحو بناء هيكل اقتصادي وطني لا يقوم فقط على ريع المحروقات، بل على الإنتاج والاستثمار المحلي والابتكار والانفتاح المدروس». وأضاف، أن هذا التوجه يتطلب وقتًا وجهدًا وتحمّلًا جماعيًا للتكاليف الانتقالية.
في السياق ذاته، أوضح الدكتور بن حملاوي أن إعادة تصنيف الجزائر من طرف البنك الدولي، ارتكزت على مراجعة إحصائية دقيقة لحسابات الناتج المحلي الإجمالي، أخذت بعين الاعتبار إدماج الإنفاق على البحث والتطوير ضمن الاستثمارات، وتحسين قياس الإنتاج في الإدارة العمومية، وهي جوانب فنية تعكس مدى التقدم في منهجية الحسابات الوطنية، لكنها لا تنفصل عن السياسات الإصلاحية التي تبنتها الدولة منذ سنوات.
علاوة على ذلك، يرى الخبير أن هذا التحول لم يكن ليحدث لولا ضبط آليات الإنفاق العمومي، وتوجيه الدعم نحو القطاعات الإنتاجية بدل الاستهلاكية، وهو ما يُلاحظ في تركيز الحكومة على دعم الفلاحة وتشجيع الصناعة المحلية وكذا ترشيد الواردات دون خلق الندرة. وعلّق بالقول: «ضبط الواردات لا يعني الانغلاق كما يُروّج في بعض الخطابات، بل هو مسعى لتحسين الميزان التجاري وتوجيه الموارد نحو ما يخدم السيادة الاقتصادية. ولو نظرنا إلى السياسات العالمية حاليًا، لوجدنا أن كل الدول الكبرى، بما فيها الولايات المتحدة، تتبنى اليوم سياسات حمائية للحد من الواردات وتشجيع الصناعة المحلية».
في سياق متصل، أكد بن حملاوي أن بعض الأصوات التي تنتقد الوضع الاقتصادي تحت عناوين مثل «غلق السوق» أو «انكماش الاستيراد»، تتجاهل طبيعة المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد، معتبرًا أن «هذه الانتقادات لا تستند إلى معايير علمية، بل تعكس قراءات شعبوية ومصلحية أحيانا، تبتعد عن التحليل الموضوعي للواقع الاقتصادي». فبناء اقتصاد حقيقي، بحسب تعبيره، «لا يتم عبر فتح الأبواب على مصراعيها لواردات استهلاكية لا تخلق قيمة مضافة، بل عبر دعم الإنتاج الوطني وخلق تنافسية حقيقية، وهذا ما تعمل عليه الدولة حاليًا».
وأضاف محدثنا، أن مؤشر الدخل المرتفع الذي سجلته الجزائر يجب أن يُستثمر، ليس فقط في الخطاب السياسي، بل في جذب الاستثمارات النوعية وتدعيم بيئة الأعمال وتحفيز المؤسسات على الابتكار والتصدير، مشددًا على أن المرحلة القادمة تتطلب تكاملًا بين الإصلاح الاقتصادي والإصلاح المؤسساتي، وتعزيز الشفافية وتبسيط الإجراءات.
بالإضافة إلى ذلك، أشار الدكتور بن حملاوي إلى أن التصنيف الجديد يضع الجزائر ضمن 10 دول إفريقية مصنفة كدول ذات دخل مرتفع، إلى جانب كل من السيشل، الغابون، ليبيا وجنوب إفريقيا، وهو ما يعزز موقعها التفاوضي في المحافل الاقتصادية الدولية، ويمنحها مكانة جديدة كقوة صاعدة في القارة الإفريقية.
وختم بن حملاوي تصريحه، بدعوة النخب الاقتصادية والأكاديمية إلى مواكبة هذا التحول وتفسيره للرأي العام، بعيدًا عن التهويل أو التبسيط. معتبرًا أن «النجاح الاقتصادي الحقيقي لا يُقاس فقط بالأرقام، بل بالقدرة على تثبيت مسار الإصلاح وتعميم ثماره على المجتمع».