الأدوات التقليديـــة لافتعال الأزمات لا تنال من الوعي الشعبي
بين التحديات الإقليمية المتصاعدة والضغوط الدولية المتلونة، تواصل الجزائر تأكيد موقعها كدولة مستقلة القرار، صلبة التوجه ومدركة تمامًا لما يُحاك ضدها من مخططات، ظاهر بعضها صداقة ومصالح، وباطنها تبعية ومساومات.
وفي سياق هذا الإدراك العميق لطبيعة المرحلة وتعقيداتها، جاءت التصريحات الأخيرة للوزير المنتدب لدى وزير الدفاع الوطني، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق أول السعيد شنقريحة، لتعيد التأكيد على الثوابت الوطنية التي تقود المسار الجزائري الراهن، بثقة لا تتزعزع وإرادة لا تُساوم.
الجزائر اليوم هي، برأي مراقبين، ليست الدولة التي تسهل محاصرتها من الخارج أو زعزعتها من الداخل، بل هي دولة تعي تمامًا خلفيات التهديدات التي تحيط بها، وتفكك خطابها، وتحلل خلفياتها، وترصد أدواتها المتآكلة. ولهذا، فإن التحديات الراهنة، وإن بدت متراكبة ومتشعبة، إلا أن الجزائر بقيادتها السياسية الواعية، تعرف تمامًا أن جزءًا كبيرًا منها يعود إلى عدم تقبل بعض القوى الإقليمية صعود الجزائر كقوة مستقلة لا تخضع للإملاءات ولا تقبل الشراكات العرجاء المبنية على التبعية.
في هذا الإطار، فإن إشارات الفريق أول شنقريحة، كانت واضحة حين أشار إلى أن «الجزائر كانت وستبقى مستهدفة»، لأن هناك من لم يهضم استقلالها، ولم يتقبل تلاحم شعبها مع جيشه، ولا تمسكها بموروثها الحضاري والثوري الذي شكل رافعة لشعوب أخرى تحررت من الاستعمار بفضل التجربة الجزائرية.
وفي السياق، لا يمكن فصل هذا التحدي السياسي- الثقافي عن المسار الاقتصادي الذي دخلته الجزائر بإصرار واضح، وهذا ما أكده تقرير البنك الدولي الأخير عن تحقيق الجزائر لصادرات خارج قطاع المحروقات بقيمة 6 ملايير دولار، وهي قيمة غير مسبوقة تعكس ديناميكية متزايدة تهدف إلى بلوغ سقف 30 مليار دولار بحلول سنة 2030.
علاوة على ذلك، فإن هذا التحول الاقتصادي لم يعد مجرد خطاب نخبوي، بل أصبح توجهاً فعليًّا تؤطره مؤسسات جزائرية عامة وخاصة، وتدعمه إصلاحات جوهرية على مستوى القوانين الاستثمارية والبنى التحتية التجارية، وهو ما يؤكد أن الجزائر تمضي بثبات نحو تحقيق استقلالها الاقتصادي، بما يعزز من استقلال قرارها السياسي.
لذا، فإن هذا النجاح الداخلي وهذه الحركة الاقتصادية الصاعدة، لا ترضي بالضرورة أطرافًا إقليمية ودولية لطالما استفادت من ضعف المنظومة الاقتصادية الجزائرية في الماضي، وجعلت من التعاون الاقتصادي أداة ضغط سياسي، ووسيلة اختراق ناعم لفرض أجندات غريبة لم تكن يومًا في صالح شعوب الجنوب.
من هنا نفهم أن هذه القوى التي يلمح إليها الخطاب الرسمي بحذر ودقة، ليست بالضرورة ذات تأثير فعلي على الجزائر اليوم، لكنها مستمرة في الرهان على إشاعة الفوضى أو العزلة أو افتعال الأزمات.
لكن الحقيقة التي يدركها كل من يتابع الشأن الجزائري عن قرب، هي أن هذه القوى باتت «حالمة أكثر منها قادرة»، وأن أدواتها التقليدية لم تعد صالحة في التعامل مع الجزائر المنتصرة؛ جزائر الدستور الجديد والإصلاحات السياسية العميقة والمؤسسة العسكرية الصلبة التي باتت أكثر انفتاحًا واحترافية في مقاربتها للأمن والدفاع.
كما أن الرأي العام الوطني بات أكثر وعيًا بنوع الخطاب الموجّه من الخارج، ولم تعد الحملات الإعلامية قادرة على اختراق الوعي الجمعي الذي أصبح مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بتاريخ الثورة ومقاومتها، وبالرمزية العميقة للجيش الوطني الشعبي، باعتباره امتدادًا لجيش التحرير الوطني، وصمام الأمان الأول لسيادة الدولة ووحدتها.
وفي قراءة واقعية لتصريحات الفريق أول شنقريحة، فإن التأكيد على أن الجزائر «لا يُراد لها أن تكون قوية ولا موحدة»، يشكل إحالة واضحة إلى مشاريع الفوضى وضرب الاستقرار، التي تُطرح في عدد من الدوائر الغربية تحت عناوين شتى، من حقوق الإنسان والديمقراطية الانتقالية، ومن الانفتاح الاقتصادي إلى المساعدات المشروطة، وهي أطروحات سبق أن فشلت أمام صلابة الموقف الجزائري واستقلال قراره السيادي، لكنها تعود اليوم في صور أكثر دهاءً، محمولة على قنوات إعلامية ومنظمات دولية تقمصت أدوارًا مشبوهة.
علاوة على ذلك، فإن ما يميز الخطاب الجزائري في هذه المرحلة، ليس وضوحه أو صراحته فقط، بل التزامه بالمسؤولية الوطنية الجماعية، حين يربط الأمن القومي بالتنمية والسيادة الاقتصادية بالجهوزية الدفاعية، والانتماء الثقافي بالأمن الروحي والمعنوي للشعب.
وهذا الربط ليس عبثيًا، بل يعكس رؤية استراتيجية شاملة تعتبر أن بناء القوة لا ينفصل عن بناء الإنسان، وأن تحقيق الأمن لا يمكن أن يتم إلا في ظل دولة قوية عسكريًا، عادلة اجتماعيًا ومتماسكة ثقافيًا.