الراضخون للإيديولوجيـة الاستعماريـة يفتقدون لأدنى قدر من التوافق في القضايـا الخارجيـة
تكشف الحرب الإعلامية التي يشنها اليمين المتطرف في فرنسا وأنصاره داخل الحكومة على الجزائر، عن حجم الأزمة العميقة التي تضرب هذا البلد. وتحمل مغامرات الوزراء الراضخين للإيديولوجية الاستعمارية، مخاطر جمة على العلاقات الثنائية بين البلدين، ستظهر أولى تداعياتها في الأفق السياسي القريب.
أبانت الأزمات المفتعلة من الجانب الفرنسي مع الجزائر، عن افتقار السلطة الرسمية في باريس، لأدنى قدر من التوافق في القضايا الخارجية، بشكل عام، ما يضع هذه الدولة على طريق التفكيك السياسي الحتمي والغرق أكثر في قضايا داخلية لن تخرج منها إلا بفاتورة باهظة للغاية.
مشكلة فرنسا حاليا، تكمن في رضوخ رأس السلطة التنفيذية لنزوات اليمين المتطرف وهذيانه القائم على العنصرية ورفض الآخر والانتقام من كل من ألحق هزائم تاريخية وأخلاقية مدوية بفرنسا.
وعلى هذا الأساس، تتصدّر الجزائر الأجندة السياسية لهذا التيار المتحالف مع بعض شخصيات اليمين المتغلغلة في الحكومة الفرنسية، التي تتصيد اللحظات لإشعال الحرائق، ثم الحصول على الاهتمام.
وإلى غاية قضية المواطن الذي أريد ترحيله قسرا، كانت الأزمة بين البلدين قائمة على أسباب واضحة وموضوعية، ترتبط بملف الذاكرة الوطنية وبغياب الإرادة اللازمة لدى الدولة الفرنسية لمعالجته بشكل منصف، وأيضا بملف الصحراء الغربية، حيث قررت الحكومة الفرنسية وهي في وضع غير شرعي تماما، أن تعترف بأطروحة وهمية، تتعارض مع القانون الدولي وتنحرف باتجاه تكريس الاحتلال بطريقة احتيالية لا تتلائم مع منصبها كعضو دائم مجلس الأمن.
لكن اليمين المتطرف الفرنسي، دخل على الخط، مستثمرا صغائر الأمور، في إذكاء الأزمة والتصعيد ضد الجزائر، وممارسة حرب إعلامية شعواء قائمة على التضليل والافتراء، سعيا لإشباع نزوة ليّ ذراع الجزائر.
هذا التيار وكلما أدرك أنه دخل ميدانا أكبر منه، كلما ازداد هيجانا، إذ لم يكن ملزما رفقة أنصاره الوزراء بالتدخل في قضية المدعو بوعلام صنصال، المعتقل على ذمة التحقيق، بعد إدلائه بتصريحات خطيره تمس بحرمة التراب الوطني ووحدته.
كما لم يكن وزير الداخلية برينو روتايو، برأي مراقبين، مجبرا على اتخاذ قرار إداري على حساب السلطة القضائية في بلاده، للقيام بمحاولة الترحيل التعسفي لمواطن جزائري مقيم في فرنسا ومندمج في المجتمع الفرنسي، إلا إرضاء لإيديولوجية الحقد والخضوع لتيار المتطرفين.
والآن، يحاول اليمين المتطرف عبر أذرعه الإعلامية البائسة، مخادعة الرأي العام بصغائر الأمور هذه، على أنها هي جوهر الأزمة بين فرنسا والجزائر، محاولا بذلك فرض ضغائنه وحقده على العلاقات الثنائية بين البلدين، من خلال إثارة مواضيع الجالية الجزائرية واتفاقية الهجرة لعام 1968، وكأنه يريد أن يثبت لنفسه وللآخرين، أن فرنسا لن تكون مهمة إلا إذا هاجمت الجزائر وألحقت أضرارا بالغة بها وبجاليتها، ولكنه يرى كل محاولته تسقط في الماء وتنقلب ضده.
إهانـة لصـورة فرنسـا
وربما شعور بعض الأوساط الأخرى، بخطر انهيار العلاقات مع الجزائر وما ستمثله من نتائج كارثية على فرنسا، فتحت قنوات إعلامية فرنسية المجال لأصوات معتدلة وأخرى من اليسار التقليدي والراديكالي، فضحت انعدام المهنية لدى الحكومة الفرنسية الحالية، وأكدت معضلة انعدام التوافق داخل السلطة السياسية في فرنسا.
وكل الأصوات الهادئة عبرت عن صدمتها من الخطإ الجسيم الذي ارتكبه وزير الداخلية، بمحاولة الترحيل القسري للمواطن “بوعلام” دون تمكينه من حقوقه في الحصول على محاكمة عادلة على التراب الفرنسي، تمت برمجتها شهر فيفري المقبل.
وفي السياق، قالت السكرتيرة الأولى لحزب الخضر، مارين تاندوليي “إن روتايو (وزير الداخلية) قام بعمل استفزازي، وهو يشعل حريقا كل أسبوع، ولا يهتم بالقضايا الأكثر جدية في فرنسا”.
من جانبه، أكد السكرتير الأول للحزب الاشتراكي، أوليفيي فور، أن وزير الداخلية “أراد البحث عن خلق الهالة الإعلامية، واعتدى على القانون، كونه لم يحترم الإجراء اللازم في قضية المؤثر الذي أراد ترحيله”، داعيا “إلى الحذر في التعامل مع الجزائر”.
أما مانون أوبري، رئيسة كتلة اليسار في البرلمان الأوروبي، فقد سمت الأشياء بمسمياتها الصحيحة، حيث أكدت “أن فرنسا لم تبق دولة القانون، عندما أراد وزير الداخلية حرمان شخص من حقه القضائي، إلى جانب اعتدائه على استقلالية العدالة”.
وفضحت أوبري، إيديولوجية اليمين المتطرف والوزراء الجمهوريين الذين يريدون إدانة الجزائريين، في وقت تواجه فرنسا أزمة افتقاد المصداقية على الساحة الدولية.
وأدانت الكثير من النخب الفرنسية، طريقة تصرف وزير الداخلية وكذا طريقة تعامل وزير الخارجية جان نويل بارو، مع ملف الأزمة مع الجزائر، حين اتجها نحو التصعيد المجاني واستخدام لغة مليئة بالصخب، ارتدت على سمعة فرنسا.
وقال العديد من السياسيين والصحفيين، إن روتايو هو من “ألحق الذل بفرنسا”، حين أراد استعراض عضلات في غير محلها ومع الطرف الخطأ الذي لن يكسب أمامه التحدي. وتساءل آخرون، عن التزام الحكومة الفرنسية الصمت عندما تعرض رجلا أمن فرنسيان كانا يرافقان وزير الخارجية للإذلال من قبل شرطة الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
إلحاح روتايو على خوض قبضة حديدية مع الجزائر، جعل منه وزيرا فاشلا في بلاده ومعتديا على صلاحيات الكيدروسي، عندما أدلى بتصريحات وقام بإجراءات تعد من مهام وزير الخارجية، فاضحا بذلك حالة الفوضى والتخبط التي تعاني منها السلطة الفرنسية الخاضعة لجنون اليمين المتطرف، الأمر الذي دفع بكثيرين إلى مطالبته بالاستقالة ومغادرة الحكومة.
ليس هذا فقط، فقد أبانت التفاصيل التي قدمها بيان وزارة الخارجية الجزائرية، عن إهانة هذا الوزير لصورة بلاده في الخارج، عندما اعتدى بشكل فظيع على واحدة من أهم القيم الفرنسية التقليدية والمتعلقة باحترام القانون واستقلالية السلطة القضائية.
أفــق قاتـم..
لاشك أن الأفق السياسي لفرنسا قاتم للغاية، بفعل حالة التفكك التي أصابت نظام الحكم، وانهيار أدبيات الخطاب الرسمي الذي صار ملوثا بفكر التيار المتطرف. وقد تجسد ذلك بشكل جلي، في خطاب الرئيس إيمانويل، الإثنين الماضي، أمام سفراء بلاده.
ومن أولى تداعيات الأزمة المفتعلة ضد الجزائر وطريقة تدبيرها، استقالة إيمانويل بون، المستشار الدبلوماسي للرئيس الفرنسي والذي التحق بفريقه سنة 2019، ووصف بالرجل “الذي يهمس في أذن ماكرون، نظرا لخبرته الواسعة في السياسية الخارجية”.
وحسب وسائل الإعلام الفرنسية، فقد انزعج بون، من الطريقة غير الدبلوماسية التي تدار بها العلاقات مع الجزائر، حيث “أصبح من هب ودب يدلي بدلوه في القضية”، ناهيك عن عدم موافقته على خطاب الرئيس ماكرون، الأسبوع الماضي، والذي هاجم فيه العديد من الدول بطريقة تعكس تدني الخطاب الرسمي لفرنسا.
مواصلة اليمين المتطرف وجزء من الحكومة، التي تفتقد للقاعدة الشعبية اللازمة، استهداف الجزائر، ستزيد من مفاقمة الوضع في فرنسا، لأن الجزائر لن تتسامح مع استمرار الحملة الهوجاء ضدها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ميزان المصالح الذي لم يعد يمنح أية أفضلية لباريس.
وما أوراق الضغط التي يلوح بها اليمين المتطرف، على غرار اتفاقية 1968 والتأشيرات، إلا ذرا للرماد في أعين الرأي العام الفرنسي، الذي سيستفيق قريبا على تعرضه لأكبر حملة تضليل في التاريخ؛ حملة تستهدف إنهاء حكم ماكرون في أقرب وقت ممكن، رغم ما قدمه من تنازلات لليمين المتطرف، واستيلاء تيار الشعبوية والفاشية على السلطة، وترسيم الانهيار الكلي لفرنسا الغارقة في الديون.