منذ أشرقت عليها أنوار الاستقلال، ظلت الجزائر ترتبط بالقارة الإفريقية برابطة الدم والتاريخ والمصير المشترك، فقد كانت ثورتها التحريرية مصدر إلهام لشعوب إفريقيا في مواجهة الاستعمار، وملجأً لحركات التحرر التي وجدت في الجزائر سندا سياسيا وماديا ومعنويا. واليوم، تحت قيادة رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، يتجدد هذا الدور لكن بصيغة جديدة؛ إذ انتقلت الجزائر إلى خوض معركة الاستقلال الاقتصادي، وهي معركة لا تقل صعوبة ولا رمزية عن تلك التي حفظها التاريخ في صفحات النور..
خطاب الرئيس تبون في افتتاح معرض التجارة البينية الإفريقية لم يكن مجرد كلمة بروتوكولية، بل جاء وثيقة مرجعية لرسم مستقبل القارة، فقد دعا فيه بوضوح إلى بناء إفريقيا قوية وموحدة، قادرة على الاعتماد على قدراتها الذاتية، واستغلال مواردها الهائلة لصالح شعوبها، بدل أن تبقى مجرد مورد للمواد الخام أو سوق استهلاكية تابعة للغرب، فالرئيس تبون يدرك أن إفريقيا لن تنتزع مكانتها إلا بتكامل دولها وتحررها من التبعية الاقتصادية، وهو ما يظهر في إصراره على جعل الجزائر رائدة في دعم البنى التحتية القارية: من الطريق العابر للصحراء إلى مشروع أنبوب الغاز العابر للقارة، ومن مشاريع الألياف البصرية إلى الموانئ والربط السككي..هذه المشاريع هي أدوات السيادة، وهي التي تمنح إفريقيا القدرة على التحكم في مصيرها الاقتصادي.
إن ما يميز الرؤية الجزائرية اليوم، هو استحضارها لروح الثورة التحريرية في مقاربة جديدة، فإذا كانت الجزائر بالأمس صوت الحرية في إفريقيا، فهي اليوم تسعى لتكون قاطرة الاستقلال الاقتصادي، وهي الرؤية التي تعكس قناعة عميقة بأن الاستقلال السياسي لا يكتمل إلا بالسيادة الاقتصادية، وأن القارة التي تملك 60 بالمائة من الأراضي الخصبة غير المستغلة، وثلث احتياطي العالم من المعادن، وأكبر نسبة من الشباب، قادرة على أن تتحول إلى قطب عالمي إذا تخلصت من قيود التبعية.
لأجل هذه الغاية النبيلة، تجسد الجزائر رؤيتها في سلسلة مشاريع كبرى، لكل منها رمزية خاصة، فالطريق العابر للصحراء، يربط الجزائر بنيجيريا عبر النيجر، فاتحا المجال أمام انسياب السلع والخدمات بين شمال القارة وجنوبها، وفاتحا نوافذ أمام دول حبيسة للتنفس الاقتصادي، أما أنبوب الغاز الجزائري-النيجيري، فهو مشروع حيوي يجعل من الجزائر مركزا محوريا لنقل الطاقة الإفريقية نحو أوروبا، ويمنح نيجيريا منفذا لتسويق احتياطاتها الضخمة من الغاز، في وقت تتزايد فيه الحاجة العالمية لمصادر طاقة آمنة، كما يستفيد منه جميع الأفارقة بطريقة أو بأخرى، بينما يعد مشروع الألياف البصرية الدافع الأول لجميع المشاريع الاقتصادية، لأنه يدخل إفريقيا إلى قلب الاقتصاد الرقمي، ويوفر لها بنية تحتية حديثة للابتكار والتكامل في عالم تحكمه المعلومة.
اليوم، أصبحت الجزائر فاعلا مؤثرا في السياسات الاقتصادية الإقليمية والدولية، ومكانتها الجغرافية بين أوروبا وإفريقيا، ووزنها الطاقوي، وتجربتها السياسية، تجعل منها رقما صعبا في معادلة المتوسط وإفريقيا، ومعارض مثل إياتياف (معرض التجارة البينية الإفريقية) يؤكد أن الجزائر صارت منصة حقيقية للحوار الاقتصادي القاري، وفضاءً تُطرح فيه البدائل الإفريقية من أجل إفريقيا.
إن ما يدعو إليه الرئيس تبون مقاربة سياسية واقتصادية واضحة، فإفريقيا يجب أن تُبنى بأيدي أبنائها، وأن تُدار مواردها بعقول وسواعد أبنائها، وأن يكون قرارها سياديا، لا يُصنع في العواصم الغربية ولا يُفرض عبر المؤسسات المالية الدولية، فالرهان الحقيقي ليس فقط في تبادل السلع، بل في تحرير القرار الاقتصادي، حتى لا تبقى القارة ضحية لتقلبات الأسواق العالمية أو رهينة للقروض المشروطة.
إن الجزائر، في طرحها الإفريقي، تؤكد على قاعدة «رابح – رابح»، فهي لا تسعى إلى الهيمنة على شركائها، بل تعرض خبرتها في مجالات الطاقة، المياه، البنى التحتية، وتفتح المجال أمام تبادل التجارب..هذه المقاربة تجعل التكامل الإفريقي أكثر مصداقية، لأنها تضع مصلحة القارة فوق المصالح الضيقة، وتبني الثقة بين الدول الإفريقية.
نحــو إفريقيـا جديـدة..
إن المشروع الذي يقوده الرئيس تبون هو امتداد طبيعي لميراث الجزائر التاريخي، لكنه أيضا استجابة لمقتضيات الحاضر، فالعالم يشهد تحولات عميقة، وتكتلات اقتصادية كبرى، وإذا لم تتحرك إفريقيا بسرعة لتوحيد صفوفها وبناء اقتصادها المستقل، ستظل رهينة لأجندات خارجية، والجزائر تقدم اليوم خارطة طريق بديلة..إفريقيا ذات قرار سيادي، قادرة على تسيير ثرواتها، واستثمار مواردها، وتصدير منتجاتها، دون الحاجة لوسيط خارجي، وبهذا، تفتح الجزائر نافذة أمل لقارة تبحث عن مكانها في القرن الحادي والعشرين، مؤكدة أن زمن التبعية قد ولى، وأن زمن الاستقلال الاقتصادي قد بدأ..