فبراير 1945.. روبير برازياك يُحاكم ويُعدم رميا بالرصاص بتهمة «التخابر مع العدو».. لمن لا يعرف برازياك، فهو أديب وصحفي و»متعاون» (مرادف «حركي» عند الجزائريين) فرنسي، انخرط في اليمين المتطرف، وفي الحرب العالمية الثانية، صار متعاونا مع النازية ومروجا لأفكارها.
نوفمبر 2024.. دولة ذات سيادة، تعتقل كاتبا يحمل جنسيتها لأنه تعدّى على قوانينها، وروّج لخطاب يمسّ بوحدتها الترابية وأمنها القومي، فتنتفض شخصيات من قيادات اليمين المتطرف (الذي كان برازياك ينتمي إليه) لاستنكار هذا التصرف السيادي.
كيف يمكن أن تناقض «النخبة» الفرنسية نفسها إلى هذه الدرجة؟ سؤال يطرحه المنطق، ولكن لا مكان للمنطق حينما نعرف أنه، شهرين فقط بعد محاكمة وإعدام برازياك بتهمة الخيانة، ولأنه لم ينضم لمقاومة المحتل، قامت فرنسا الاستعمارية، ودون محاكمة، بقتل 45 ألف شهيد جزائري لأنهم، على عكس برازياك، طالبوا بحرية وطنهم.. فهل هي السكيزوفرينيا في أوسع تجلياتها؟
خلال الحرب العالمية الثانية، انقسم الكتاب والأدباء الفرنسيون إلى ثلاثة أقسام: فقد سُمح للبعض من أمثال أراغون، سارتر وإلوار بالنشر علنًا وسرّا (أو ما عُرف بالأدب المُهرّب الذي نظّر له أراغون)، وانضم آخرون للمقاومة على غرار كامو، شار، بيكيت أو بونج، فيما أصبحت فئة ثالثة متعاونة مع النازيين مثل برازياك، دريو لاروشيل، سيلين.. هكذا صنف الأكاديمي الفرنسي ألان بارو كتّاب تلك المرحلة المفصلية، مضيفا أن الكتّاب كانوا يرون خضوع مسؤوليتهم السياسية والأخلاقية للاختبار، وهو الاختبار الذي لم ينجح فيه كثيرون. وينقل بارو نداء جورج برنانوس عام 1942: «سيتعين على المثقفين أن يتحملوا مسؤولية الهزيمة الفكرية، مثل الهزيمة العسكرية التي يتحملها الجنود»..
هكذا تعاملت «فرنسا الحرّة» مع كتابها الذين أداروا ظهرهم لها، وعلى النقيض تماما، تعاملت مع كتّاب ومثقفي الجزائر الثائرة ضد الاستعمار، فوصفتهم بـ»الفلاقة» والإرهابيين، واستشهد منهم الكثير.. أليس ذلك ضربا من السكيزوفرينيا؟ ولكن، حينما يقف كاتب جزائري معاصر أمام هذه الحقائق، ألا يقوم عقله بمقارنة بسيطة؟ أفلا يتفكّرون؟
وإذا تركنا جانبا التصنيف المبني على الوطنية (الذي اعتمده الفرنسيون حينما تعلق الأمر بسيادتهم) واعتمدنا تصنيفا أدبيا، نجد فئة من الكتّاب سوداوية كافكوية، ترى السواد في كل ما يحيط بها، وفئة أخرى طوبوية مفرطة في التفاؤل، وفئة ثالثة تتبنى الواقعية وتحاول نقل الحقيقة كما هي.. ولكن، أن تجد كاتبا يرى السواد فقط في وطنه الأصلي، ولا يرى النور إلا في «مُستخدمه»، حتى وإن كان لهذا الأخير ماضٍ استعماري أسود، وحاضر مساند لقوى الإمبريالية وعرّابي الإبادة، فإننا لا نتحدث عن مرض نفسي.. بل لعلها «سكيزوفرينيا مدفوعة الأجر».. سكيزوفرينيا تجعل من «الكاتب» جزائريا حينما تستضيفه الحصص الفرنسية، وفرنسيا حينما يراد تطبيق القانون الجزائري عليه، ومواطنا كونيا وعالميا حينما ينكر عن الفلسطينيين حقهم في المقاومة، ويساوي بين الضحية والجلاد، بل وقد ينتصر للجلاد.. أليس هذا فصاما ممنهجا ومدفوعا بالمصلحة؟ أفلا يتدبّرون؟
شهدنا، في الأسابيع الماضية، ترويجا لمزاعم بأن منع رواية داود في صالون الجزائر الدولي للكتاب، كان سببه «قانون السلم والمصالحة الوطنية»، الذي يمنع التطرق للعشرية السوداء.. ويكفي أن نرى جديد الكتب والروايات وحتى الأفلام التي تتطرق لهذه الفترة، حتى نعلم أن ذلك محض «فايك نيوز».. ثمّ إن مجرّد التطرق لفترة الإرهاب، دليل على عظمة الجزائر وأبنائها، وهي التي خرجت منتصرة على ظلاميين مدعومين من منابر خارجية يعرفها الجميع، ويغضّ داود وأمثاله الطرف عنها..
منذ سنوات والدوائر الأكاديمية وكبريات الصحف في فرنسا تحذر من تراجع وانحطاط الإشعاع الفكري والثقافي الفرنسي؛ تراجع بدأ منذ سبعينيات القرن الماضي.. ولكن، أن يتمّ تسخير بعض أقلام «الأنديجان» لأغراض سياسوية، بدعم علني من الـ»كريف» واليمين المتطرف..
يبدو أنه، كما كانت قضية تحرر الجزائر اختبارا للإنسانية، أصبحت «غزة» تلعب هذا الدور اليوم، وكما سبق القول، ويبدو أن صنصال، وداود، وأمثالهما، سقطوا في هذا الاختبار..
للأسف، نحن، أبناء هذا العصر، نعيش في «عالم يحكمه الأطفال بدل البالغين»، كما قال إمانويل تود.. عالم يحكمه «شبه قانون دولي»، تدعي تمثيله أنظمة «شبه ديمقراطية» تزعم أنها تدافع عن «شبه حرية»، تستغلها طبقة «شبه سياسية» تخدم مصالح «شبه نخبة» اقتصادية، ويروج لها «شبه إعلام»، ويجمّل منهاجها «أشباه مفكرين»، فمن الطبيعي، في خضمّ هذا العالم «شبه» المتحضر، أن يتصدر المشهد «أشباه مثقفين وكتاب»، يقدمون «شبه إبداع»، وأفكارا أنتجها عقل «شبه منحرف»..
عالم تحكمه قوى تعتمد مبادئ ظاهرها «الواقعية السياسية»، وباطنها إرث استعماري مبني على عقدة المركزية والتفوق، ولذلك لم يكن أحسن من شرّح هذا الفكر، وهو فرانز فانون، عالم سياسة أو اقتصاد، بل طبيبا نفسيا.. من أجل ذلك تعتبر العودة إلى التاريخ مفيدة، وإذا ما عدنا إلى تاريخنا، نحن الجزائريين، فسنستذكر مقولة شهيرة قد يكون تحيينها: «العربي عربي يا لوكان الكولونيل بوعلام/داود».