مدخل لدراسة الهيكلة الجديدة للعالم

بقلم: د. محمد العربي ولد خليفة
11 فيفري 2014

تنشر جريدة «الشعب» خلاصة عامة لدراسة د. محمد العربي ولد خليفة التي تم عرضها ومناقشتها ضمن سلسلة اللقاءات التي نظمتها مديرية النشر بالوكالة الوطنية للنشر والإشهار بمركز مصطفى كاتب بالعاصمة.
واشترك في المناقشة، التي أدارها الأستاذ عزالدين ميهوبي، كلّ من الأساتذة محند برقوق ومحمد لعقاب ومحمد خوجة وحضرها جمع من المعنيين بالقضايا المعرفية والتحولات السياسية في المنطقة والعالم.

تجتاز المنطقة العربية الإسلامية، ومنذ أمد طويل، مرحلة حرجة يمكن البحث عن بدايتها في الإنذارات الأولى لتفكك الدولة، وظهور النزعات الاستبدادية، وعجز المجتمع عن إنتاج التقدم في مؤسسات التربية والثقافة والعلوم، والتراجع العام، المصحوب بالغفلة عما يحدث في العالم.
  أسفر التفكك والتخلف عن حالة من الضعف والاتّكالية تصل في بعض الأحيان إلى الانهيار الحضاري، سمح لجحافل متوحشة ومعادية للحضارة بالشروع في تدمير مادي ومعنوي واسع النطاق.
  قدم البعض من تلك الجحافل المتوحشة من الشرق (المغول والتتار) وقدم بعضها الآخر من الغرب (الصليبية المتطرفة والدموية المضادة لروح المسيحية السمحاء)، وهكذا تقهقرت المنطقة بأكملها مشرقا ومغربا، وخرجت بالتدريج من موكب المقدمة الذي يصنع التاريخ ووجدت نفسها في قبضة القوى الامبريالية المتعطشة للتوسع والهيمنة، وفي آخر مواقعها الدفاعية.
لا يكفي أن نلوم الآخرين على أفعالهم ونواياهم، بل لابد من أن نعيد قراءة سجل منطقتنا، حقيقته الأولى أن التقدم يحدث بتراكم التجارب والخبرات والمعارف، ويؤدي إلى الثقة في النفس، والتحكم في المستقبل، والانفتاح على العصر بلا عقد ولا تعقيد، بالمشاركة في منجزاته.
  الوجه الثاني لهذه الحقيقة هو أن التخلف أيضا يتراكم ويتكاثر ثم يتغلغل أفقيا داخل المجتمع ويبطئ حركيته ويقلل من فعاليته، كما أنه ينتشر عموديا في مؤسسات الدولة فتعجز عن أداء وظائفها الحيوية ويستشري فيها الفساد، تشلّ هذه الحالة القاهرة الأمة كلها وتجذبها إلى أسفل.
في هذه الوضعية العامة تميّزت السنوات الأخيرة بتزايد السخط والحيرة وتفاقم الإحساس بالعجز عن تحقيق الطموحات المشروعة لشعوب عانت منذ قرون من الظلم والعدوان والهيمنة الأجنبية، وقدمت منذ الصدمة الأولى مع الاستعمار في شكليه، الحماية والاستيطان، الكثير من التضحيات في سبيل الاستقلال والحرية، تذرعت تلك الشعوب بالصبر والصمود ولم تنقصها الإرادة والعزيمة.
  بلغت تلك الطموحات والآمال الواعدة أوجها مع انطلاق حركة التحرر الوطني في منتصف هذا القرن، وتوجت عقد الستينيات بانتصار الثورة الجزائرية، باعتبارها مشروعا أصيلا ودائما للتحرر والتقدم، ونجاح بعض بلدان المنطقة في استعادة ثرواتها الطبيعية وتطهير أراضيها من القواعد العسكرية والأحلاف المشبوهة.

مكاسب وتحديات

أسفر الكفاح الطويل والمرير لحركة التحرر الوطني عن مكاسب جوهرية، كان من المنتظر أن تستمر على جبهتين:
  أولاهما: داخلية وحاسمة، وهي تتمثل في تعبئة الجهود للتخلص من التخلف والتبعية واكتشاف الطريق الأسرع والأضمن لتدارك الهوة الكبيرة التي تفصلنا عن الجزء المتقدم من العالم المعاصر.
لم يتحقق ذلك بالمستوى المطلوب، أو لنقل حدث بشكل جزئي وعشوائي، ويبدو لنا أنه لن يحدث في المستقبل إلا إذا كان وفق رؤية شاملة ومتكاملة لتنمية بعيدة المدة، وفي مناخ ديمقراطي يرفع الرعية إلى المواطنيّة في دولة يكون الحق فيها حقا وليس منحة والواجب واجبا وليس عقوبة.
  إن الديمقراطية ليست مجرد ديباجة وبنود في الدساتير، إنها في بلادنا وفي كل المنطقة الأفروعربية مسألة حيوية، إنها ذلك المناخ الثقافي الاجتماعي الذي يمنع من تجذر التناقضات والصراعات العقيمة التي تجعل بعض النخب تشتبك مع ذاتها ومع الغرب والشرق في معارك جانبية، تكشف في الحقيقة عن حالة القلق والضياع التي تجتازها شعوبنا.
  ليست لنا خصومة أو حساب نصفّية مع ماضينا الحضاري في كل أبعاده، إنه هو الذي يخاصمنا وينتظر منا مزيدا من النقد والغربلة والإضافة والتطوير لإيصاله إلى راهنيـة (Actualisation) تضعه في صميم السباق نحو التقدم والرخاء.
على هذا الأساس ليس هناك مخاوف من الحداثة والعصرنة الحقيقية التي لا تتوقف عند الاستهلاك الذهني الكسول والابهة المستعارة، لأن الحداثة أيضا تنتظرنا منذ أمد طويل لكي نتمثل (Assimiler) أفضل الموجود فيها، تمهيدا لإنتاجها بعقلنا نحن، وإدماجها في ميراثنا المشترك، باعتبارها امتدادا طبيعيا له، ورافدا نوعيا في التراث الإنساني المتجدد.
  إن مدح أو سبّ أيّ منهما – (موروثنا الحضاري والحداثة) – لا يضيف لكليهما شيئا، بل هو ثرثرة وتخبط ناجمان عن حالة الضعف والتخلف، أشبه بالمضاربة والسمسرة في سوق وهمية تدور صفقاتها بين أشباح تعيش على هامش الماضي والحاضر.
  أما الجبهة الثانية فهي امتداد للأولى، فقد كان من المنتظر أن يتعزز التضامن وتتكاتف الجهود ضد عدو يهدد الجميع هو التخلف والهيمنة الأجنبية التي استغلت بذكاء حالة الضعف والفرقة في السابق وسيطرت على المنطقة وحولتها إلى ملحقات ومخازن للمواد الأولية ونفذت في أجزاء منها مخططات الإبادة والإذلال.
باستثناء فترات قصيرة، فرضتها ظروف خارجية، لم يتم تفعيل المنظمات الإقليمية، وبقي التشاور والتنسيق خاضعا لسياسات آنية، تتعطل وقد تتحول إلى تنافر وعداء، أحيانا بسبب التسرع وسوء التقدير، وأحيانا بسبب أخطاء فادحة في فهم ما يعنيه الجوار والتعاون بين بلدان يجمعها التاريخ واللسان والعقيدة، وتجابه تقريبا نفس التحديات.
  لهذه الأسباب وغيرها، بقي العمل المشترك في قطاعات الاقتصاد والمال والتربية والثقافة والبحث العلمي والعلاقات الدولية إلخ... أقل من الحد المطلوب، كان من الممكن أن يتسع التعاون والتكامل، لو قام على تحليل سياسي علمي يتجاوز العاطفيات العابرة والمواقف التكتيكية المبنية على مصالح آنية وقصيرة النظر، وانطلق من تثمين جدي للموقع الجيوسياسي الممتاز لمجموع المنطقة الأفروعربية واستثمار مشترك، وطويل المدى للموارد الضخـمة المتوفـرة في معظـم بلدانها، وبناء تفكير استشرافي (Prospective) عن مكاننا في عالم اليوم والغد.
  من المؤسف جدا أن حركة التحرر الوطني في توجهها الأقرب للشعب والأكثر تقدمية، قد تلقت ضربات قاسية وتمت محاصرتها من الداخل والخارج، وتكالبت عليها القوى الكبرى، بمساعدة من الكمبرادور الذي أظهر قدرة كبيرة على التخفي والتلون والتأثير على صعيد الجبهتين الآنفتي الذكر.
  استطاع لفيف الكمبرادور و«المخازنية” في فترات زمنية وفي أجزاء متفرقة من منطقتنا أن يفرض منطق (أو لا منطق) التخلف والتبعية المهينة، وأن يحتفل بالنكسات والهزائم ويصفها بالتاريخية، على مرأى ومسمع من شعوب لا تصدق ما ترى، وتندفع من بين صفوفها جماعات نحو راديكالية ماضوية (Passeiste) أو انسلاخية بلا مخرج ولا مشروع.
ليس لتلك الضربات والتواطآت المشينة تاريخ محدد، فقد كان الصراع على أشده خلال كل مراحل التحرير والبناء الوطني طوال تلك الفترة بقيت دوافع المواجهة وأهدافها واحدة، (كفاح من أجل التحرر وتشييد الدولة الوطنية التقدمية من جهة، ومحاولات فرض الهيمنة والتبعية والتدجين من الجهة الأخرى)، إن الذي اختلف هو أشكال المواجهة ومواقعها وأسلحتها حتى مطلع عقد التسعينيات حيث تمكنت القوى الكبرى، بعد الانهيار المفاجئ والسريع للاتحاد السوفياتي، من الاستفادة من خبرتها السابقة بشؤون المنطقة واستغلال الأوضاع السائدة في كثير من بلداننا نتيجة ضعف أو تردي وتيرة التنمية، وعدم وضوح العلاقات التي تربط مؤسسات الدولة بالمجتمع، استغلت كل ذلك لتسريع الزعزعة وكسر التضامن، والعودة بالمنطقة إلى وضع قريب مما كانت عليه قبل منتصف القرن، بل هو في بعض جوانبه أدنى من ذلك بكثير.
كيف وصلت المنطقة الأفروعربية إلى ماهي عليه من ضعف وتشرذم؟ أين الخلل؟ هل تعاد هيكلة العالم في كل مرة فيغياب بلداننا، وعلى حساب شعوبنا؟ ما هو المطلوب من القيادات والنخب ونحن على مشارف نهاية العقد الثاني من القرن الجديد؟ كيف تستعيد شعوبنا الثقة في قدراتها ومستقبلها وترسخ تضامنها في عالم تقوده الكتل الكبرى، ويتجه نحو التدويل الشامل للاقتصاد والثقافة والإعلام، ويحتكر التكنولوجيا ويفسر الشرعية حسب مصالحه؟
نحاول في هذه الصفحات تقديم إجابات أولية على جوانب من هذه الأسئلة الكبيرة، لا نزعم أن تلك الإجابات هي الوحيدة أو الأصح، إنها مجرد اجتهادات لملاحظ من مجال العلوم الاجتماعية، ويهتم بالتقاطعات الموجودة بين موضوعاتها ومناهجها، كما هو الشأن بين الفلسفة والتاريخ والاقتصاد السياسي وعلوم السياسة والنفس والاجتماع.
ينتمي كاتب هذه الصفحات إلى جيل شارك من مواقع مختلفة في صنع أحداث حقبة التحرير الوطني وتحمّل قدرا كبيرا من آلامها وانتظر ثمارها بثقة تلازم العديد من أفراده إلى اليوم.
عايش ذلك الجيل بمحاسنه وعيوبه انتصارات حركة التحرير الوطني على مستوى المنطقة العربية والإفريقية كلها، وعقد الكثير من فصائلها آمالا كبيرة على ثورة الجزائر جوهرة النضال من أجل الهوية والتقدم والحرية، من الإنصاف – وليس من التنويه فحسب – القول بأن شعبها أنجب من صلبه ثورة أصيلة بمنهج ونظرية يصعب تصنيفها ضمن الايديولوجيات التي تتقاسم العالم أو تشخيصها في قائد أو زعيم أوحد يحتكر أمجادها.
غير أن التأثر بالتجربة الجزائرية أثناء تألقها، أو من خلال الهزات العنيفة والعابرة التي ألمت بها لا ينقص من الموضوعية والصرامة العلمية كلما اقتضى سياق الوصف والتحليل التعرض لمواقف الجزائر من القضايا الساخنة في مشرق ومغرب المنطقة العربية الإسلامية وإفريقيا وهما عمقنا الطبيعي.

مقاربات حلول لأوضاع سائدة

نحن على يقين بأنه لا حاجة على الاطلاق إلى مرافعات عاطفية وحماسيات إيديولوجية عندما يتعلق الأمر بالتوجهات الكبرى للجزائر التي ليس لها “شبكة” حزبية – إيديولوجية، أو “لوبيات” مطيعة في أي بلد من الجوار المغاربي، أو العربي الإفريقي الأوسع، إن انتصار الحرية والتقدم في أي بلد من المنطقة وفي إفريقيا وانحسار الهيمنة الأجنبية هو انتصار للجميع، لا يتعارض ذلك في نظرنا مع الوطنية (Patriotisme) وواجباتها الأساسية.
انطلاقا من هذه النظرة، وحسب المعطيات المتوفرة بين أيدينا والمستمدة من المصادر والأبحاث المتخصصة التي اطلعنا عليها في غمرة الظروف الصعبـة المحيطـة بالجزائـر، حاولـنا رصـد عـدد مـن الظواهـر والقضـايا على الساحـة الواسعـة للمنطقـة العربية والإفريقية والعالـم المتغيـر من حولـنا وفي مجتمعـنا، وخاصـة جزءه الذي يتفـرد اليـوم بالقيـادة، ويفـرض بتفوقه الاستراتيجي الكبير هيمنة سياسية اقتصادية وثقافـية (إيديولوجية) تقتـرب من العـودة بأجـزاء كبيـرة من المنطـقـة إلى الشكـل المباشـر للكـولونياليـة (Recolonisation).
ما من شك في أن ضعف المقاومة يرجع بالدرجة الأولى لعوامل داخلية عرقلت تقدم الأمة وشككت شبابها في حاضره وماضيه – (نحن لا نعرف سوى القليل جدا عن المساهمات الكبرى لبلادنا في التعاون مع إفريقيا جنوب الصحراء ودفاعها المستميت عن الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط ودعمها السخيّ لحركات التحرر بعد الاستقلال ومساعدة البلدان الافريقية في مجالات التكوين والاستثمار).
من أخطر تلك العوامل، الصراعات المدمرة القائمة اليوم في كثير من مجتمعاتنا حول الإسلام دين التوحيد والوحدة الذي نص على حرية الاعتقاد ورفض الاكليريكية وحث على احترام حقوق الأقليات (أهل الذمة أي العهد بالحماية) وجعل التسامح والتواضع علامة على التقوى وهي أرقى أشكال الإيمان.
أغلب ظننا أن وراء الكثير من تلك الصراعات خطّة مبيتة لتثبيت التخلف وتجريد بلداننا من مرجعية روحية إنسانية لا علاقة لها بالجنس (Race) وتتكيف بسهولة مع خصائص الثقافات المحلية لكل الشعوب، الهدف هو إشغال فئات من المجتمع بعضها ببعض وفتح الطريق لقوى خارجية لتساعد البعض على مواجهة البعض الآخر قبل ابتلاع الجميع.
بعيداً عن تمارين الجدل فإن هذه المقاربة تحترم قناعات ومواقف الآخرين (الباحثين أو الفعاليات السياسية)، ولكننا نتعرض لها أحيانا بالنقد من خلال الأدبيات السياسية المنشورة وفي خطابها اليومي والأحكام القطعية غير المؤسسة الموجّهة للإثارة، ونفحص كذلك جانبا من التنظير الغزير في العالم الأرو- أمريكي، والموجه للتصدير والترويج بين النخب الاجتماعية والفكرية في البلدان العربية والإفريقية وكل بلدان العالم الثالث.
يتوزع هذا الكتاب على ثلاثة أقسام وتسعة فصول، يتناول القسم الأول عرضا إجماليا لأوضاع المنطقة العربية الإسلامية، وهو يتكون من ثلاثة فصول، أولها مدخل خصصناه لتوصيف تاريخي اجتماعي ثقافي للمنطقة، وثانيها أشرنا فيه إلى مكاسب العشرينية الذهبية-(الستينيات والسبعينيات)- لحركة التحرر الوطني على مستوى العالم الثالث، وينتهي هذا القسم بفصل ثالث ناقشنا فيه بعض إشكاليات الثقافة السياسية والمفاهيم الشائعة حول الديمقراطية والحداثة والتدين والتطرف بين المنتسبين للإسلام أو للمسيحية.
أما القسم الثاني فهو يجيب على سؤال من شقين ومؤداه النظام الدولي ماذا تغيّر فيه؟ وأين نحن من مستجداته؟ وهو يتضمن كذلك ثلاثة فصول هي: الرابع ونتحدث فيه عن عناصر من فلسفة النظام الدولي وملامح الهيكلة الجديدة للعالم والانهيار المفاجئ للثنائية القطبية ونتساءل عن مصير روسيا الكبرى.
ونتتبع في الفصل الخامس التشكيلة المكونة لدول المركز (Core States)، وخاصة الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، وننظر في الفصل السادس إلى انعكاسات الهيكلة على منطقتنا العربية والإفريقية بعد أن أصبحت أجزاء منها مجرد مخبر للأحادية القطبية وخاصة منذ انتهاء حرب الخليج الثانية وتدمير العراق والتطورات المتلاحقة من بلدان الربيع العربي والأزمات التي تعصف بالقارة السمراء.
وقد أفردنا القسم الثالث وفصوله الثلاثة للجزائر، عرضنا في الفصل السابع مؤهلات الجزائر إلى جانب عدد من المعطيات الجيوسياسية، وأشرنا في الفصل الثامن وبإيجاز إلى موقعها في المنظومة الراهنة للعلاقات الدولية وتجربتها الدبلوماسية ومدى تأثرها بالتحولات الجارية في الداخل والخارج.
وختمنا هذا القسم والدراسة كلها بفصل تاسع تضمن مقاربة إجمالية لأوضاع الجزائر الراهنة ومحاولة استشراف مستقبلها كما تبدو معالمه في العقود الأولى من هذا القرن.
قد يجد القارئ الكريم في الفصول السابقة مقاربات نقدية للتوجهات والحصيلة ومعاينات (Constats) لحصائل ضعيفة أو سلبية، وتسمية للأشياء بأسمائها، بلا تورية ولا تقية، لعله من المفيد أن يعرف أن ذلك لا علاقة له بالمزاج الشخصي و«نوبات” التشاؤم والتفاؤل العاطفية ولا ينطلق من أي انتماء إيديولوجي مغلق من اليمين أو اليسار.
إذا كنا نعتبر أن الإيديولوجية الماركسية هي موقف فلسفي يقترح حلولا لأوضاع سائدة في أزمنة وأمكنة معينة تقتضي إعادة ترتيب العلاقات وأدوات السلطة داخل المجتمع وعلى مستوى العالم، فإننا نلاحظ فشلها في المجالين السابقين وتراجعها “على رؤوس الأصابع” بعد أكثر من نصف قرن من التنظير والتطبيق.
غير أن تراجع وفشل النظريات الماركسية لا ينسينا إسهامها الكبير في المعرفة الإنسانية ومناهج البحث وخاصة في الآداب والفنون، كما أنه لا يدفعنا إلى التهليل السطحي لانهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، فنحن نعتبر ذلك في المستوى الجيوستراتيجي وعلى ضوء مصالحنا الحقيقية من كوارث النصف الثاني من هذا القرن.
لقـد حرم ذلك الانهيار الرهيب العالم الثالث والمنطقة العربية والإفريقية بوجه خاص من دعم – (أيّا كانت دوافعه) – خفّف من ضغط المعسكر الغربي الذي بقي كتلة (Bloc) متماسكة إلى اليوم.
كما أننا لسنا مع الغرب ولا ضده، لا ينكر منجزات الغرب العلمية والفلسفية والأدبية والفنية الممتدة على حوالي أربعة قرون سوى أولئك الذين فقدوا حاسة البصر وخانتهم الهمة والبصيرة، نقدنا للغرب يتوقف فيما نسميه المنازعة (Litige) أي طريقة تعامله معنا باعتبارنا موضوعا (Objet) للاستغلال والاستعمار والرازيا (Razzia) وإلزامنا بالاندماج السلبي في خرائطه (Schémas) الذهنية ونماذجه (Catalogues) الاقتصادية والثقافية، ولذلك من حقنا أن لا نقبل من جهة التقوقع وخطاب الكراهية والنفاق، ولا نرضى من جهة أخرى بالترديد الببغائي لكل ما يقوله الغرب لنا وعنا ماضيا وحاضرا ومستقبلا، ولا نطمئن لشعارات ثقافية تمجد الأمركة (américanisation) والفرانكفونية والانكلوفونية التي تزعم أنها قامت بتحضير شعوبا لفرض إشراف ووصاية سياسية على بلداننا ونخبها، ولا نطمئن أكثر لدعوات التبشير بالفتوحات اللبرالية المتوحشة أو الطوباويـة (Utopiques) التي تستهدف اقتحام أسواقنا واستنزاف ثرواتنا عن طريق الشركات المتعددة الجنسيات بأقل مقابل وبلا حدود ولا قيود في منافسة غير متكافئة، لا اليوم، ولا في الأفق المنظور.
إن الذي نؤمن به ونتبناه عن قناعة هو المصالح الدائمة لشعوبنا أيا كان الطرف المقابل، وتشييد ثقافة بنظام للتربية والتكوين والبحث العلمي، ثقافة تتجدر فيها قيمنا التاريخية الأكثر إيجابية وتنبت في تربتها الخصبة ديموقراطية تنشر الحرية والعدالة والتقدم وتعزز التضامن بين بلداننا وتدفعنا إلى المشاركة في الإجابة على التحديات الحقيقية التي يطرحها عصرنا وهي السلام والأمن والرفاهية لشعوبنا العربية والإسلامية والإفريقية ولسكان المعمورة في قاراتها الخمس.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024