من هنا، تبدو الحكومة المخزنية في مأزق حقيقي، فهي من جهة لا تعرف لغة الحوار ومن جهة أخرى تدرك جيّدا بأن رهانها على القبضة الأمنية تجاوزه الزمن ولم يعد بإمكانها التعويل عليه مع الجيل الرقمي ما يعني أن أبواب جهنّم باتت مفتوحة أمام النظام المخزني القمعي ولا مجال للنجاة.
أعادت المظاهرات التي يقودها شباب ما يعرف بـ«جيل زاد “ في أكبر المدن المغربية إلى الأذهان مشاهد احتجاجية عاشتها المملكة قبل سنوات، حين خرج الآلاف ضمن “حركة 20 فبراير” مطالبين بالإصلاح والحرية والكرامة.
وبين الأمس واليوم، تتقاطع الدوافع الاجتماعية والسياسية التي فجرت الغضب الشعبي، غير أن السياقات تختلف: ففي 2011 كان الحراك مؤطرا بشعار التغيير في العالم العربي وتداعيات الربيع الديمقراطي، بينما في 2025 يأتي الحراك الجديد في ظل أزمة اقتصادية خانقة يعيشها المغاربة وتراجع الثقة في مؤسسات الدولة، وصعود جيل رقمي يتواصل وينظم نفسه عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
الشباب الذين حشدتهم مجموعة “جيل زاد 212” في وقت وجيز، يجسّدون واقعا جديدا: تنظيم بلا هياكل، وقيادة بلا زعامات، وخطاب مباشر يلامس القضايا المعيشية.
فهم يرفعون مطالب ملموسة مثل إصلاح التعليم والصحة ومحاربة الفساد والحق في العيش الكريم، دون الخوض في شعارات سياسية كبرى أو أيديولوجية، وهو ما جعلهم يحظون بتعاطف واسع من فئات مختلفة، حتى ممن لم يشاركوا ميدانيا.
المقاربـة الأمنيــة بالمرصـــاد
لكن المقاربة الأمنية التي وُوجهت بها هذه الاحتجاجات، من تطويق ومنع واعتقالات واسعة، أحيت جدلا قديما متجددا حول تعامل الدولة المخزنية مع الشارع. ففي الرباط وحدها، وثقت جمعيات حقوقية توقيف أكثر من سبعين شابا، بينهم محامون وحقوقيون بارزون. وتكررت مشاهد التفريق بالقوة في مدن أخرى مثل الدار البيضاء وطنجة ومكناس.
المشهد أعاد المغاربة إلى طريقة تعامل السلطات مع حركة 20 فبراير، التي بدأت بجرعات من الانفتاح السياسي والدستوري ثم تراجعت تدريجيا نحو المقاربة الأمنية.
واليوم، يرى مراقبون أن الرهان على القبضة الأمنية في مواجهة “جيل زاد” قد يعيد إنتاج نفس السيناريو، لكن في ظروف أكثر تعقيدا، نظرا لانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي توثق كل حدث في ثوانٍ، وتضعه أمام أنظار الداخل والخارج.
فـاض كــأس الصّـــبر
لم تقتصر احتجاجات الشباب على المطالبة بإصلاح التعليم والصحة ومحاربة الفساد الاقتصادي، بل جاءت أيضا تعبيرا عن غضب عارم تجاه ما يعتبره الكثير من الشباب فسادا ترعاه مؤسسات الدولة.
وتجلى ذلك في الشعارات المرفوعة وفي النقاشات على مواقع التواصل، ما يعكس شعورا متزايدا لدى جيل كامل بأن الدولة تنفق الملايين على مهرجانات فارغة وعلى كأس العالم، في وقت يعاني فيه المواطن من تدهور الخدمات الأساسية وارتفاع تكاليف المعيشة.
صـورة المملكـة فــي الحضيــض
على المستوى السياسي، برزت ردود أفعال قوّية؛ الحزب الاشتراكي الموحد أدان “التجييش الأمني” واعتبر أن مطالب الشباب مشروعة، فيما ذهبت فيدرالية اليسار الديمقراطي أبعد من ذلك بإعلان تعليق مشاوراتها مع وزارة الداخلية بشأن الانتخابات، معتبرة أن الحوار السياسي يفقد معناه في ظل القمع.
من جهته، حمّل حزب العدالة والتنمية الحكومة كامل المسؤولية عن تدهور الأوضاع الاجتماعية، فيما لم تُخف شخصيات حقوقية قلقها من أن ما حدث يشكل تراجعا خطيرا عن مكتسبات دستورية ويضر بصورة المغرب دوليا.
شـرخ كبـير بــين الدولـة والشعــب
اللافت أن مجموعة “جيل زاد 212” أعلنت منذ البداية رفضها للعنف مؤكدة أنها فضاء للنقاش السلمي، غير أن حجم التعبئة الذي حققته في ظرف قياسي كشف أن هناك شرخا حقيقيا بين الدولة وجزء كبير من الشباب.
وفي حال تجاهلت الدولة المخزنية رسائل هذا الحراك، أو اكتفت بمواجهة الشباب المسالم بالهراوات، فإنها حتما ستدفع بالوضع نحو مستويات أعلى من الاحتقان والانفجارات.
من هنا، تبدو الحكومة المخزنية في مأزق حقيقي، فهي من جهة لا تعرف لغة الحوار ومن جهة أخرى تدرك جيّدا بأن رهانها على القبضة الأمنية تجاوزه الزمن ولم يعد بإمكانها التعويل عليه مع الجيل الرقمي ما يعني أن أبواب جهنّم باتت مفتوحة أمام النظام المخزني القمعي ولا مجال للنجاة.