عوامل خارجية عمدت إلى جرّ كييف إلى مستنقع الحرب
فتح الباب أمام المرتزقة والمتطوعين لعب بالنّار
لا يمكن للعالم أن يفلت من تداعيات ومآلات الأزمة
يرى الدكتور الباحث مجادي رضوان، أن مستقبل الأزمة بين روسيا وأوكرانيا يمر عبر تفعيل الآليات الدبلوماسية السياسية ليس فقط بين كييف وموسكو، وإنما بين روسيا والدول التي جرّت أوكرانيا إلى مستنقع الحرب والدمار، ليلتقي الجميع حول طاولة مستديرة للتفاوض على مخرجات تخلّص المنطقة من خطر اتساع نطاق المواجهة العسكرية، وأشار الدكتور مجادي في حواره لـ»الشعب ويكاند»، أن تداعيات ومآلات الحرب في أوكرانيا ستكون كبيرة على العالم بدليل أن العلاقات الدولية أصبحت شائكة ومعقدة، وبالتالي حدث المنعكس الأمني على دول الاتحاد الأوروبي بالدرجة الأولى، وانتقل إلى مجالات وقطاعات أخرى كالاقتصاد والثقافة والسياسة وغيرها من المجالات.
- «الشعب ويكاند»: الحرب الروسية الأوكرانية ليست نتيجة أسباب حالية وإنما تعود إلى مراحل سابقة وربما هي نتيجة تراكمات، فما تعليقكم على ذلك؟
د. مجادي رضوان: اختلفت زوايا النظر إلى موضوع الأزمة الراهنة، والتي تخصّ طبيعة العلاقات السياسية بين دولتي روسيا وأوكرانيا، وهو ما يحيلنا كباحثين وبصدد فهم تلك العلاقات وتداعياتها للعودة إلى جذور الصراع والاتكاء على هامش من الطروحات العلمية الفاحصة لخلفياتها ومسبباتها وظروف نشأتها، في سياق يجعلنا نقف عند أبرز المحددات التاريخية والسياسية والأيديولوجية والعسكرية والأمنية، وحتى الاقتصادية والثقافية والدينية وغيرها.. الخ، حتى يتسنى لنا قراءة أزمة الماضي واليوم واتجاهات تطورها، وتداعياتها على كل من أوكرانيا وروسيا ودول المنطقة وربما العالم ككل.
بما أن المقاربة التاريخية مهمة لفهم خلفيات الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، وجب العودة إلى تاريخ المنطقة ككل، فالتاريخ بين الدولتين يفتح صفحاته الجغرافية، أين كان الامتداد الروسي يشمل المحور الأوكراني، مما يعني أن أوكرانيا في مخيال القيادة والنخب الروسية هي أرض تاريخية وعمق استراتيجي لروسيا كإمبراطوريه ولروسيا كوريث للاتحاد السوفياتي، وعلى الرغم من محاولات قيادات أوكرانيا سياسيا أن تمارس سيادتها وتستقل عن روسيا كإمبراطورية وروسيا كاتحاد سوفياتي، وهو ما لم تهضمه القيادة في الطرف الآخر وتتقبله كخيار يسمح بانفلاتها عن القبضة الأيديولوجية؛ حتى ولو اتفقت الدولتان على الحدود، إلا أن الأبعد لا يعدو أن يكون اتفاقا حرفيا بقدر ما هو مسألة عقائدية فيها من التفصيل والتفاصيل السردية، وهو ما تستثمر فيه روسيا اليوم لاستعادة أمجاد الأمة في نظرها لاعتبارات كثيرة؛ أبرزها الإيمان والتمسّك بالرابط العرقي واللغوي والثقافي الذي يجمع بين شعوب أوروبا الشرقية ككل ويجعلها في المحور التاريخي واحد.
فالتاريخ يجيبنا أن دائما، الأحداث المتسارعة تقدم لنا الدلائل والحجج بشأن خلفيات وعوامل الأزمة الراهنة، حينما تصدعت العلاقات مطلع سنة 2003، أين بدأ الصراع بشأن الجغرافيا والحدود بين البلدين يظهر للعيان، وهو ما نستشفه كمضمون في الخطاب السياسي الرسمي الحالي، وما أثير من تجاذبات ونقاش حول إقليم «دونباس» كمعطى تاريخي وجغرافي يفسر أبعاد الأزمة.
إلى جانب ذلك، انتقل العامل التاريخي إلى الشقّ السياسي،ولابد على الطرفين المتنازعين أن يتنافسا سياسيا حول من يهيمن على مراكز اتخاذ القرار ومفاصل إدارة الدولة والمجتمع، وهو ما حدث فعلا مع مطلع سنة 2004، وما تلاها بشأن الانتخابات الرئاسية، مما تسبب في إحداث انقسامية سياسية بين النخب والقيادة، لا سيما في أوكرانيا، جانب يميل إلى كفة روسيا وآخر تحت جناح دول الغرب، ودائما ما غرقت في وحل الثورات والانتفاضات وقلب موازين العملية الانتخابية لصالح الكتلة الغربية، الأمر الذي استدعى من روسيا تغليب خيارات اقتصادية كقطع الغاز عن أوكرانيا باعتبارها الممر الحيوي للطاقة في المحور الأوروبي لأكثر من مرة في تاريخ العلاقات بين الدولتين وجوارهما.
بما أن أصل الأزمة هو تاريخي وأيديولوجي، فلا مناص من الحديث عن حقبة الحرب الباردة التي ما زالت تمتد وتُلبس ثوبها العلاقات بين روسيا ودول الكتلة الغربية، فالتنافس في العلاقات الدولية في الماضي والحاضر هو سياسي وأيديولوجي، وأن مسارعة روسيا وأندادها بالمقارعة حول من يهيمن على النظام الدولي تطلب توظيف الأساليب العسكرية وتشكيل محور التهديدات الأمنية كمتغير فرعي يخدم النزعة الأيديولوجية ويبسط جناح الهيمنة، وهذا ما يجعل التهديد موضوعا مناسبا لاستخدام أدوات الحسم العسكري عندما تُمَسُّ المصالح الكونية بين المعسكرين كالأمن والطاقة.
وأوكرانيا لا تخرج عن هذا الإطار باعتبارها ورقة حسم بين روسيا ودول الغرب، ذلك أن عرابة العالم والقطبية والواحدة تعهدت أيضا بعدم السماح لأي قوة منافسة لها، مما اقتضى منها اتخاذ سياسة الانتشار الواسع مع الاستعانة بنشر قواعد الحلف الأطلسي وقواته العسكرية، خاصة في الأقاليم والمناطق التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي سابقا أو روسيا وحلفائها حاليا قصد احتوائها وتقويض قدراتها التنافسية.
كذلك عن الخلفيات الدينية والهوياتية هي الأخرى مهمة في تحليل المشهد المتأزم، والذي دام يغذي نسق العلاقات الروسية - الأوكرانية إلى غاية اليوم، والصراع قائم على أساس عقائدي بين النزعتين الدينيتين الكاثوليكية والأرثوذوكسية، الأمر الذي جعل من موضوع العلاقات بينهما محل نقاش ديني بالأصل والمعتقد، وهو ما يحيلنا على قراءات تعدد الأطراف وتأثيرها في مصير الأزمة من هذه الزاوية، حيث إن المعضلة تكمن في صراع حضاري أكثر منه عسكري وأمني.
- هل تعتقد بأن أطراف الأزمة تختزل في طرفين ممثلين في روسيا وأوكرانيا فقط؟
لقد أشرت ضمنيا في السابق إلى خلفيات الأزمة، وبأي حال من الأحوال مشهدها العام يشير إلى تعدد فواعلها وأطرافها، سواء بالنسبة لروسيا كمحور للأزمة التي ترى في الأطراف الخارجية - على غرار أوكرانيا - مصدر تهديد لأمنها القومي.
فالمسألة لم تقتصر منذ أن ولدت الأزمة على روسيا وأوكرانيا فقط، وإنما شملت فواعل أخرى كدول الاتحاد الأوروبي ودول الجوار في المحور الإقليمي التي دفعت بأوكرانيا إلى تبني خيار الانضمام إلى الحلف الأطلسي، واليوم تنظر في مسألة انخراطها إلى المنظومة الأوروبية.
إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية كفاعل مركزي في الأزمة تاريخيا وسياسيا وعسكريا، بل حتى الفواعل الثانوية في المجتمع الدولي التي انقسمت إلى دول معارضة ومؤيدة ومحايدة، بل حتى النزعة اليهودية لها موطئ قدم في استفحالها وتغذيتها وشحذها، إلى أن أخذت أبعادا أخطر أصبحت تهدّد التماسك الاجتماعي.
- في نفس السياق، أخذت الأزمة منحنيات أخرى، كالتهديد النووي، والحرب الشاملة، وبروز متغير المقاتلين المتطوعين، ما هي تفسيراتك بشأن هذا التصعيد؟
الأصل أن الأزمة سلكت منعرجات خطيرة طالما شكلت خطرا وشيكا يهدد الأمن المجتمعي في أوكرانيا، حين انقسم المجتمع الأوكراني إلى تيارين؛ قومي متطرف وروسي عرقي، خاصة مع التصعيد في لهجة الخطاب لدى الطبقة السياسية الأوكرانية الحاكمة ضد العرقية والأقليات الروسية، وهو ما دفع الأطراف بوقف الاقتتال الدامي بموجب اتفاق مينسك في سنة 2014، أطرافه روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا، والذي قضى في بنوده بضرورة سحب السلاح ووقف الصراع والنزاع، وتشريع قانون الحكم الذاتي في إقليم دونباس وتنظيم انتخابات محلية تفرز سياسات الخصوصية اللغوية والأمنية.
غير أن الظروف والأسباب امتدت وأصبحت متداولة في مشهد الأزمة، مما دفع بالطرف الروسي للاعتراف بجمهوريتين من إقليم دونباس - سبقه ذلك ضمّ القرم إلى روسيا- وبرر تدخله العسكري في أوكرانيا من أجل حماية الأقليات وصون حقوقها الإنسانية.
وتعود خلفيات التدخل العسكري إلى محاولة روسيا دحر نوايا أوكرانيا للانضمام إلى قوات الحلف الأطلسي، والشروع في نزع السلاح واحتواء مناطق الطاقة النووية والسيطرة عليها، مع التركيز على دفع القيادة السياسية الحالية بضرورة الاستقالة وزحزحتها عن كرسي ومفاصل الحكم، وهو أحد الشروط التي تفرضها روسيا على الحكومة الأوكرانية.
وترى روسيا في النظام الحاكم كذلك، أنه خرق بنود اتفاق مينسك، مما دفع بالحكومة الحالية إلى تجنيد فصائل شعبية لمواجهة روسيا عسكريا، الأمر الذي يمهد طريق نظام المرتزقة والحرب الأهلية في أوكرانيا، وتصبح المنطقة مهدّدة بظاهرة الهجرة القسرية والجريمة المنظمة والإرهاب والحركات الانفصالية.. الخ، وقد تشكّل في مجملها تهديدا عابرا للأقاليم والدول، وحتى القارات.
في الجهة المقابلة، تتعامل الحكومة الأوكرانية مع الوضع بمنطق الدفاع عن الأرض، مما يدفعها إلى الاستنجاد بقوات موازية غير نظامية، والتجارب تتكرر من زاوية تجنيد مقاتلين وفتح مراكز التدريب العسكري، مما يساعد على فتح قنوات عبور وتسرب الميليشيات وتجارة الأسلحة في المنطقة، الأمر الذي يغذي جسد الحرب والاقتتال الداخلي، وحتى تشجيع ظاهرة الحرب بالوكالة من طرف جميع الأطراف المركزية المتنازعة.
وهو ما أقدمت عليه حكومة أوكرانيا عبر بعض سفاراتها في الخارج بتوجيه نداء استغاثة وطلب تجنيد لمرتزقة من خلال فتح باب الانخراط إلى الصفوف العسكرية، وهو تصعيد خطير قد يمسّ استقرار علاقاتها السياسية والاقتصادية.
كما أن نفس الظروف ومثل هذه الوضعيات هي تهديد مباشر على أمن روسيا وأوكرانيا ودول الجوار، مما سيرفع من التكلفة الناجمة عن تضخم حجم العمليات القتالية والدفاعية في المجال العسكري، وجعل المنطقة متوترة وغير مستقرة، خاصة بعد التهديدات الروسية باستخدام سلاح الردع النووي، وهو ما يعتبر أمرا جد خطير على الامن العالمي ككل.
- كيف انعكست الأزمة نسقيا على الدول والمجالات والقطاعات أخرى؟
لا يمكن للعالم أن يفلت من تداعيات ومآلات الحرب في أوكرانيا بدليل أن العلاقات الدولية أصبحت شائكة ومعقّدة، وبالتالي حدث المنعكس الأمني على دول الاتحاد الأوروبي بالدرجة الأولى، وانتقل إلى مجالات وقطاعات أخرى كالاقتصاد والثقافة والسياسة وغيرها من المجالات.
في الجانب الاقتصادي، أثرت الأزمة وانعكست على موارد الطاقة والمحروقات أساسا، حيث عرفت ارتفاعا مبهرا في أسعار النفط في ظرف وجيز، كما يتخذ منحى تصاعدي ويجعل من الدول الطاقوية تهدف إلى تعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية، لا سيما الدول النامية. وقد تكون نفس الدول المحور الآخر للأزمة الأمنية، وتصبح مرتعا للحركية الدبلوماسية والتفاوض، من جهة لضمان أمن شعوب الدول الأوربية من الطاقة والغاز، ومن زاوية أخرى لتوسيع دائرة العقوبات وممارسة التضييق والخناق التدريجي كورقة اقتصادية في يد الكتلة الغربية لإرهاق روسيا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية.
وحتى التأثير الأمني سيكون سلبيا على سوق السياحة الدولية، مما سينجم عنه تراجعا في قيمتها المضافة وتقهقر ناتجها العالمي الخام.
كما أن جميع الدول ستشهد تأثيرات الوضع الأمني على الأوضاع التنموية والاجتماعية، بخاصة وأن الطرفين لهما تأثير كبير على العلاقات الاقتصادية الدولية، مما يعني أن العالم سيواجه معضلات في محاور الحركية الجوية، أو البحرية، أو البرية.
بينما انتقل تأثير الأزمة كذلك إلى محور العلاقات بين الدول التي تدين العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، ودول تعلن تضامنها المطلق من منطلق تغليب الرابطة الأيديولوجية والتاريخية بينها وبين دولة روسيا، وأخرى كما أشرنا اتخذت من موقفها السياسي حيادا ثابتا في سياساتها الخارجية.
من جهة أخرى، وبما أن الأزمة يطبع عليها تسارع في الأحداث والمستجدات، يمكن لهذه الدينامية التأثير على باقي الدول في المحور العربي وحتى الأفريقي، وأن تأثيرها سيمتد إلى كل أنحاء القارة الأوروبية وتسلك مسارها الانتشاري والمساس بأمنها واستقرارها، لا سيما في المجال الاقتصادي.
ومن المرجح أن يكون لها تداعيات محتملة على دول الشرق الأوسط ودول شمال افريقيا، بتأثير مباشر وصريح من خلال خفض حجم التجارة الدولية، وقد يكون تأثيرا غير مباشر من خلال الزيادة في أسعار السلع والمواد الأولية، وحتى المساس بالأمن الغذائي إن كان للأزمة ديمومة وتعقيد مستمر في المنطقة، على اعتبار أن روسيا وأوكرانيا أكبر مصدرين للقمح في العالم، خاصة أن الدول الأفريقية ودول العالم النامي ككل تعرف ركودا في سياساتها المالية والنقدية ويجعلها غير متحررة في السوق العالمي، ولا يؤهلها اقتصاديا لمواجهة التداعيات في حالة تحقق السيناريو الأخطر، وهو التصعيد العسكري بين أوكرانيا وروسيا بما يؤدي إلى إضعاف صادراتهما، إذ يجعل الدول النامية غير قادرة على المناورة والمجاراة في الهامش السياسي قصد تأمين تجارتها.
- أمام هذا المشهد ماهو توّقعك لمستقبل الأزمة الروسية والأوكرانية؟
الجانب الذي يمكننا كباحثين النظر إليه بشأن مستقبل الأزمة بين روسيا وأوكرانيا يخصّ ثلاث سيناريوهات، عسكرية وأمنية ودبلوماسية.
في الجانب العسكري، هناك احتمالية قوية مبنية على مؤشرات استمرار الحرب في أوكرانيا، بدليل أن إجراءات الإجلاء والإخلاء هي من قواعد الحرب للدخول في مستويات أخرى، الأمر الذي يصاحبه انتشار الفكر المتطرّف واللعب على أوتار الأقليات والعرقيات الروسية والأوكرانية، وهو ما سيعقد من حل معادلة الجانب الأمني.
أما عن الجانب الأخير وهو سيناريو تفعيل الآليات الدبلوماسية السياسية، ليس فقط بين أوكرانيا وروسيا، وإنما بين روسيا والدول التي تجر أوكرانيا إلى مستنقع الحرب والدمار، حينما تجتمع حول طاولة مستديرة لمناقشة الخلفيات والأسباب والعوامل التي تجعل من أوكرانيا منطقة توتر بالنسبة للمجتمع الدولي، والتفاوض على استراتيجيات والمساومة في هامش الانتفاع من مخرجات السياسة الدولية القائمة بين القوى الكبرى وتخليص المنطقة من الحرب والمواجهات العسكرية المباشرة، لأن الأزمة الأوكرانية الراهنة خلفيتها تعود إلى صراع عقدي وتاريخي.