لا تنفك الأزمات تطارد دولة مالي منذ الاستقلال، فما لبث أن خرج المستعمر الفرنسي حتى تفجرت الخلافات وتتالت الأزمات، وأصبحت الانقلابات العسكرية مشهدا مألوفا في البلاد كلما تصاعدت الخلافات وتعمقت المعاناة.
أصبحت متلازمة الاضطرابات سمة بارزة حالها كحال شقيقاتها الأفريقية ـ فما بين العوامل الداخلية والخارجية يبقى مشهد عدم الاستقرار والعنف سيد الموقف ولم يعد أحد يستطيع التكهن بما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع بهذه الدولة الواقعة في منطقة الساحل الإفريقي والتي تواجه هذه الأيام ثاني انقلاب عسكري في ظرف أشهر معدودة.
ففي 24 ماي 2021 قام موالون لـ ـ آسمي غويتا زعيم انقلاب أوت 2020، باحتجاز رئيس الحكومة الانتقالية باه نداو ورئيس الوزراء مختار وان، على إثر إقدام رئيس الحكومة الانتقالية بإجراء تعديلات لبعض الوزارات التي كان يشغلها العسكريون (وزارتي الدفاع والأمن) واقتادوه إلى معسكر للجيش في منطقة «كاتي» التي تبعد حوالي 18 كلم عن العاصمة ويصفها الكثيرون بأنها منبع الانقلابات في هذا البلد منذ ما يزيد على 10 أعوام.
وقد ذهبت تحليلات وتأويلات كثيرة في تفسير ما جرى، ولكن هناك مسارين رئيسيين.الأول: يرى أنه امتداد للأزمات التي ظلت تعصف بالبلاد منذ الاستقلال والصراعات التي خلفها الاستعمار بين الشمال المهمش والجنوب النافذ أو الصراع التقليدي بأفريقيا بين المدنيين والعسكر، أو بين الرافضين لهيمنة الخارج والموالين له، ولكنه في النهاية امتداد أزمات سياسية تتفاقم منذ وقت بعيد كلما بدأت محاولات حلها.
الثاني: تحليل الخبراء المتخصصين بأمن الساحل الأفريقي، والذي يذهب إلى أن ما جرى صراع نفوذ بين فرنسا ودول أخرى بدأت تتغلغل بقوة في أفريقيا في العقد الأخير.
الانقلاب حرّك قادة مجموعة دول غرب أفريقيا (إيكواس) الذين عقدوا أمس قمة استثنائية في العاصمة الغانية، أكرا خصّصت حصرا لبحث الوضع في مالي وسبل الرد على قادة الجيش هناك.
وقد دعت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا «ايكواس» العقيد غويتا الذي قاد الانقلاب ونصّب نفسه رئيسا انتقاليا لمالي للحضور إلى أكرا لإجراء «مشاورات».
تعثّر الانتقال السياسي
وكانت المحكمة الدستورية في مالي أعلنت الجمعة الكولونيل غويتا رئيسا انتقاليا للبلاد، في استكمال للانقلاب الذي بدأه الإثنين ضد من كانوا يحولون بينه وبين قيادة البلد الغارق في المصاعب الأمنية والسياسية، وبذلك، أضفت المحكمة الدستورية طابعا رسميا على التطوّر الأخير الذي حاول شركاء مالي تجنبه بعد انقلاب أوت 2020.
وأطاح أسيمي غويتا ومجموعة من العسكريين بالرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا بعد شهور من الاحتجاجات الشعبية. ثم قبل المجلس العسكري، تحت ضغط دولي وعقوبات فرضتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، بتعيين رئيس ورئيس حكومة مدنيين تعهدا بإجراء انتخابات وإعادة السلطة إلى المدنيين في ختام فترة انتقالية تدوم 18 شهرا.
ورغم ذلك، استحدث المجلس العسكري منصب نائب رئيس على مقاس أسيمي غويتا الذي كلف بمسؤوليات أمنية أساسية. كما تمّ تعيين عسكريين في مناصب حسّاسة. لكن سرعان ما اعتقل غويتا، وهو قائد القوات الخاصة السابق، رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المدنيين الضامنين للانتقال. وأضفي لاحقا على عزلهما القسري طابع الاستقالة الطوعية.
انتخابات 2022 على المحكّ
وتشكّل التطورات الأخيرة في مالي نكوصا عن الالتزام بعملية انتقال يقودها مدنيون، ما يلقي ظلالا من الشكّ حول مصير بقية التعهدات وأبرزها تنظيم انتخابات في مطلع 2022. وأبدت المجموعة العسكرية في الأيام الأخيرة نيتها في احترام الجدول الزمني المتفق عليه، لكنها نبّهت في نفس الوقت من أن تطبيقه رهين بالتطورات.
ماكرون يهدّد
هدّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مقابلة مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» نشرت أمس الأحد، بسحب قوات بلاده من مالي في حال سار هذا البلد باتجاه ما سماه «الإسلاموية الراديكالية» بعد انقلاب ثان في ظرف تسعة أشهر. وأكد ماكرون أنه سبق وأن «مرر رسالة» إلى قادة دول غرب أفريقيا مفادها أنه «لن يبقى إلى جانب بلد لم تعد فيه شرعية ديمقراطية ولا عملية انتقال» سياسي.