ضرورة تنسيق الجهود بين الفاعليين الإقليميين لإيجاد حلول سياسية عاجلة
استبعاد تقليص نجامينا لقواتها في مكافحة الإرهاب
بتحليل استشرافي دقيق تحدث الدكتور عبد الحكيم بن بختي أستاذ العلوم السياسية بجامعة أبو بكر بلقايد «تلمسان»، عن تطورات الوضع الأمني والسياسي بتشاد ووقف على تداعيات آخر مستجدات شهدها هذا البلد الإفريقي الذي يتوسط القارة السمراء، ولم يخف أنه بالنظر إلى الظروف الراهنة المشحونة بالتهديدات الأمنية الخطيرة المفتوحة على الكثير من المخاوف، يكون من الذكاء تنسيق الجهود بين مؤسسات الاتحاد الإفريقي من جهة والفاعلين الإقليميين من جهة أخرى، لحلحلة الوضع وإعادة الاستقرار السياسي والأمني المهدد بالانهيار في المنطقة، ومن ثم مواصلة تجسيد البرامج وبذل الجهود الرامية إلى تجفيف منابع الإرهاب والجريمة المنظمة بمنطقة الساحل الإفريقي.
وحذر الدكتور من حدوث أي تردي للوضع في تشاد، لأنه دون شك سيضاعف من تأزم الوضع الأمني بالمنطقة، وذكر في سياق متصل أن نظام الرئيس السابق «ديبي» شكل لعقود رقما فاعلا في معادلة التوازنات الأمنية بالمنطقة، وذلك من خلال التواجد على أكثر من جبهة للحد من نشاط الجماعات الإرهابية؛ في جنوب الحدود النيجيرية حيث تنشط جماعة «بوكو حرام»، وفي الشمال منطقة الساحل التي زادت تأزما بعد الانفلات الأمني الليبي.
- « الشعب»: ما هي قراءاتكم لتطورات الوضع في التشاد على ضوء الأحداث الأخيرة؟
الدكتور عبد الحكيم بن بختي: للأسف الشديد أن ما حدث مؤخرا في التشاد من انزلاقات أمنية خطيرة يعد أحد أهم تبعات المعضلة الأمنية في ليبيا، والتي تسببت في العديد من الأزمات الأمنية في منطقة الساحل بداية بما حدث بمالي وزيادة نشاط جماعات الإجرام المنظم، واندلاع التمرّد في مالي وصولا إلى اغتيال الرئيس التشادي، كما أن حدث الاغتيال هذا لا يعتبر بادرة أزمة سياسية وأمنية داخلية فحسب، وإنما يحتمل أن يكون سببا قويا في تأزم الوضع الأمني في منطقة الساحل، خاصة مع تنامي شوكة التنظيمات الإرهابية في المنطقة (بوكو حرام، القاعدة، داعش، أنصار الدين، المرابطون، نصرة الإسلام..). فلقد استفادت الجماعة التشادية المتمرّدة التي تقف وراء الاضطرابات الراهنة من الفوضى الليبية في رفع مستوى تسلحها، خاصة وأن العديد من الجماعات ساهمت بصفة مباشرة في القتال على المسرح الليبي، وبالتالي فإن التطورات الأخيرة عكست جملة من التراكمات الداخلية المتمثلة في انغلاق النظام وضعفه على مرّ ثلاث عقود من جهة، وعكست من جهة أخرى مجموعة من التراكمات الخارجية ممثلة في تنامي الإرهاب والجريمة المنظمة في المنطقة، علاوة عن تضارب مصالح القوى الدولية في المنطقة وفي صدارتهم نذكر كل من فرنسا و الولايات المتحدة الأمريكية.
- أظهر المتمرّدون ليونة وقبولا للوساطة وجنوحا للحلول السلمية.. ماذا تعلّق على هذا المستجد؟
على الرغم مما قد يبديه المتمردون من موافقة واستعداد للوساطة وبالتالي الجنوح للحلول السلمية، إلا أنه لا يمكن الوثوق في هذا المقترح كمخرج فعلي للأزمة في التشاد على المدى المنظور كأقل تقدير، لأن أجندة المطالب ستكون في الغالب تعجيزية للنظام، حيث يتخوّف أن تمس بأركان النظام ومرجعيته وكذا انتماءاته القبلية، خاصة وأن المتمردون يستشعرون قوة غير مسبوقة في التنظيم والعتاد، نتيجة الانخراط الميداني في جبهات القتال في ليبيا. وبالتالي فإن دخول المتمردين في تفاوض مع النظام سيكسبهم الشرعية المفقودة بل ويجعل منهم طرفا وجب التعامل معه، وهو ما يفسر قبولهم المبدئي بالوساطة والحوار، في مقابل رفضهم الاعتراف بالمجلس العسكري الانتقالي، وحتى بالميثاق الدستوري الذي تبناه المجلس ذاته.
- المجلس العسكري الذي تولى السلطة في تشاد هل سيتمسّك بها أم ينقلها للحكم المدني أم يجعلها مشتركة؟
للإجابة عن هذا التساؤل يجب في البداية فهم السياق العام لتشكّل المجلس العسكري، فعلى الرغم من الغموض الذي اكتنف إعلان مقتل الرئيس «إدريس ديبي»، إلا أن فرضية الانقلاب العسكري تبقى مستبعدة جدا، بدليل أن المجلس العسكري الانتقالي يتكوّن من خمسة عشر جنرالا من أكثر القادة ولاءً للرئيس «ديبي»، إضافة إلى تعيين نجل الرئيس الراحل رئيسا لذات المجلس، وعليه فإن هناك من يعتقد ترجيح فرضية تكمن في أن نية المجلس العسكري واضحة جدا في عودة نظام الرئيس الراحل، طبعا في انتظار التزكية الفرنسية التي تكون بناء على محادثات سرية ودور استخباراتي مكثف. علما أن ديبي الابن تعهد في أول تصريح له بعد وفاة والده بتنظيم «حوار وطني شامل»، بما يسمح بإرساء «مصالحة وطنية» وتنظيم انتخابات رئاسية «حرة ونزيهة» خلال الفترة الانتقالية، كاشفا عن ملامح ميلاد حكومة مدنية إنتقالية قريبة، حيث قال إن مهمته الأساسية تكمن في تشكيل حكومة مصالحة وطنية، تتشكل من كفاءات تمثل جميع التشاديين، وتعهد للشعب التشادي أن تكون المصالحة الوطنية والوحدة والتضامن في صدر الاهتمامات وعلى رأس مهام الحكومة الجديدة.
- ما مدى تأثير ما يجري بالتشاد على المنطقة المعروف عنها أنها حسّاسة، حيث تنتشر فيها الجريمة المنظمة والإرهاب، وما هي الانعكاسات على الصعيد الأمني؟
يتفق كل الخبراء على أن أي تردي للوضع في تشاد سيضاعف من تأزم الوضع الأمني بالمنطقة وكلما تأخرت الحلول تعقد الظرف الحساس الذي يعصف بالدولة ودول الجوار أكثر من أي وقت مضى، على خلفية أن نظام «ديبي» وبدعم فرنسي شكل لعقود رقما فاعلا في معادلة التوازنات الأمنية بالمنطقة، وذلك من خلال التواجد على أكثر من جبهة للحدّ من نشاط الجماعات الإرهابية؛ في الجنوب الحدود النيجيرية أين تنشط جماعة «بوكو حرام»، وفي الشمال منطقة الساحل التي زادت تأزما بعد الانفلات الأمني الليبي. علاوة عن منطقة الحدود الثلاث (مالي، النيجر، وبوركينافاسو) إذ تعتبر المنطقة معقلا هاما لتحركات مريبة لمافيا التهريب، والمتاجرة في المخدرات والسلاح والبشر بعيدا عن أي سلطة أو رقابة ردعية تنهي الفوضى.
- المعروف عن تشاد أنها منخرطة في قوة برخان، هل التوتر سيغير من دورها؟
تجسد عملية «برخان» تنسيقا وتعاونا أمنيا رفيعا بين خمس دول، ويتعلّق الأمر بكل من التشاد وبوركينافاسو، مالي، النيجر، وموريتانيا، وتتخذ من العاصمة التشادية مقرا لها، إلا أن مسألة تحديد الأدوار في إفريقيا والنظام التشادي على وجه الخصوص لا ترتبط بتفاعلات داخلية صرفة، وإنما ترجع في جوهرها إلى طبيعة المهام الموكلة إليها من قبل الدول الكبرى، وهو ما بدا واضحا في تصريح وزير الخارجية الفرنسي، حين قال إنه من المستبعد جدا انسحاب القوات التشادية من دول الجوار، أو تراجعها عن الالتزامات السابقة الموقعة في عهد الرئيس «ادريس ديبي»، كما أنه لا يخفى على أحد أن حجم التهديد الأمني الذي سينتج عن هذا الانسحاب سيكون جسيما على المنطقة برمتها وخسائره مكلفة ماديا وبشريا، خاصة وأن القوات التشادية تعد أهم قوة عسكرية في عملية برخان واثبت ذلك على أرض الواقع.
- أترون أن الاضطراب الداخلي في تشاد سيقلّص من مهمتها في مكافحة الإرهاب في المنطقة، خاصة أنها عضو في المجموعة الخماسية؟
لقد باتت ظاهرة الإرهاب في منطقة الساحل تتصدّر أجندة الأولويات لصناع القرار في المنطقة، وبناء على ذلك فإن أي تراجع من طرف تشاد يعتبر إخلالا بالمنظومة الأمنية الإقليمية، خاصة بعدما شهدته المنطقة من نشاط مكثف للجماعات الإرهابية خلال السنوات القليلة الماضية وحتى منذ الأشهر الماضية، حيث كان أشد فصولها دموية تلك التي سجلت مقتل 92 جنديا تشاديا في مقاطعة البحيرة على يد جماعة «بوكو حرام» في شهر مارس 2020، وعليه فلا نعتقد أن تقوم تشاد بتقليص مهمتها في مكافحة الإرهاب، بل إنها أحد أهم المهمات والملفات التي سيوظفها المجلس الانتقالي من أجل حشد الدعم الدولي وخاصة الدول الكبرى ممثلة في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية سعيا لعودة الأوضاع إلى سابق عهدها وتجاوز الاضطرابات التي تعصف بالبلد وتهدّد استقرار المنطقة بشكل عام.
- تربط فرنسا علاقات وطيدة مع رؤساء تشاد.. ما وراء ذلك؟.. ولماذا تشاد بالتحديد؟
تحتل تشاد موقعا جغرافيا جد استراتيجي، حيث تتداخل الشرائط والخرائط الحدودية لكل من إقليم دارفور جنوب السودان بغناه النفطي، وتتاخم الجهة الجنوبية لليبيا، كما تحاذي كلا من النيجر وبوركينافاسو والجزائر، أما سرّ العلاقات المتينة بين فرنسا وتشاد فترجع تحديدا إلى الروابط التاريخية، والمصالح الاقتصادية المشتركة، زيادة عن الدور الذي لعبته تشاد لعقود طويلة في حماية القواعد العسكرية الفرنسية من هجوم التنظيمات الإرهابية التي يتضاعف عددها وتعدادها بشكل مقلق في المنطقة، وعلى الرغم من الفتور المرحلي الذي شهدته علاقة تشاد بفرنسا في عهد الرئيس الفرنسي «فرانسوا هولاند» بحجة المقاطعة الفرنسية التي طالت بعض الأنظمة الإفريقية التي كانت تظنّ على حدّ تقديرها بأنها لا تتوفر على أدنى مؤشرات الحكم الراشد والديمقراطية وأسس العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، إلا أن العلاقة سرعان ما استعادت زخمها بعد الاستجابة التشادية للمخططات الأمنية الفرنسية والتواجد الخارجي للقوات التشادية حفظا للأمن والسلم الإقليميين وصونا للمصالح والشركات الفرنسية في المنطقة مقابل تلقي تشاد أموالا وأسلحة متطوّرة وتوفير الحماية لبقاء واستمرار النظام بجميع مكوناته وانتماءاته.
- هل ينجح خيار «أفرقة» الحلول في القفز بالتشاد لبرّ الأمان؟
سجّلت المواقف الأولى التي أعقبت حالة الاضطراب الأمني والسياسي في تشاد حضورا وازنا لمجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي عبر بيان رسمي عبّر فيه عن قلقه البالغ إزاء ما يحدث في تشاد، مشيرا في البيان ذاته إلى أن تداعيات الوضع الأمني في التشاد سيكون لها وقع شديد الحدة على مستقبل السلم والأمن لكل دول الجوار، إلا أن خطاب المجلس لم يختلف عن الخطاب الفرنسي والأمريكي في مسألة التعجيل بحوار وطني شامل والانخراط بسرعة في عملية إعادة البناء المؤسساتي لإرساء السلم وتكريس القانون في البلاد، الأمر الذي يفتح باب الاحتمالات على مصراعيها، لأنه في حالات كثيرة يعتبر منطق بعض الأزمات في إفريقيا منطق يقف وراء تحريكه مصلحة الدول الغربية، حيث تقف أمامه الحلول المحلية عاجزة عن الإحاطة بكل جوانبه، مما يفقدها النجاعة والقوة في التجسيد، في حين طالعتنا الأزمات المتعاقبة في إفريقيا على مرّ عقود مضت، أن تدخل القوى الكبرى كان حاسما بدافع الحفاظ على مصالحها، وبالتالي فإنه وبالنظر إلى الظروف الحالية والتهديدات الجسيمة يكون من الذكاء تنسيق الجهود بين مؤسسات الاتحاد الإفريقي من جهة والفاعلين الإقليمين من جهة أخرى، لحلحلة الوضع وإعادة الاستقرار السياسي والأمني بالمنطقة ومواصلة البرامج والجهود الرامية إلى ضرب منابع الإرهاب والجريمة المنظمة بمنطقة الساحل الإفريقي.