يبدو أن صبر مصر بدأ ينفد وهي ترى إثيوبيا ماضية في تنفيذ قرارها بالملء الثاني لسدّ النهضة الذي خلق أزمة حقيقية بين أديس أبابا من جهة والقاهرة والخرطوم من جهة ثانية.
قبل أيام، خرج الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن صمته، وبحدة «غير معهودة»، حذّر من المساس بحصة مصر من مياه النيل قائلا; «نحن لا نهدّد ولكن لا يستطيع أحد أخذ قطرة مياه منا وإلا ستشهد المنطقة حالة عدم استقرار لا يتخيلها أحد»، مشدّدا على أن «ذراع مصر طويلة وقادرة على مواجهة أي تهديد»، وأن «المساس بالمياه خط أحمر».
الغضب المصري فجّره تمسّك إثيوبيا بتنفيذ المرحلة الثانية من ملء السدّ في جويلية القادم بقرار أحادي ودون المرور عبر مفاوضات تعقد مع مصر والسودان تفضي إلى اتفاق شامل يرضي الجميع، كما أثارته مخاوف القاهرة على أمنها المائي جراء ما تعتبره محاولات لتعريضها للعطش، وما يترتّب عن ذلك من تبعات سياسية وكلفة اقتصادية وربّما توترات اجتماعية، لهذا فهي تهزّ الدنيا ولا تقعدها دفاعا عن حصّتها من مياه النيل، إذ أن النقص الحاصل في المياه مستقبلا لابد وأن يعوّض بالاعتماد على ضخّ المياه الجوفية وما يتبعه من كلفة مالية وبيئية عالية، إضافة إلى التوجّه لتحلية المياه؛ ما يزيد الأعباء المالية على المواطن والمزارع المصري، وما يتبع ذلك من نقص في إمدادات الغذاء، وبالتالي ستكون السلطات المصرية أمام خيارين؛ أما رفع الأسعار أو زيادة الدعم الحكومي، وفي كلا الحالتين النتائج ستكون مؤلمة.
إثيوبيا المستفيد الأكبر
بدأت مصر والسودان وإثيوبيا مفاوضاتها للوصول إلى اتّفاق بشأن ملء سدّ النهضة سنة 2011، ورغم مرور هذه السنوات أخفقت البلدان الثلاثة في الوصول إلى تفاهم، والتزمت أديس أبابا بموقفها، حيث أعلنت في جويلية الماضي أنها أنجزت المرحلة الأولى من ملء الخزان البالغة سعته 4.9 مليارات متر مكعب، كما أكدت عزمها على تنفيذ المرحلة الثانية من ملء بحيرة السد في جويلية المقبل.
ويتجلّى واضحا أن إثيوبيا المستفيد الأكبر من بناء سدّ النهضة، إن لم تكن المستفيد الوحيد، ففوائدها منه كثيرة وعظيمة، أهمها إنتاج الطاقة بمقدار 6450 ميغاواط، إضافة إلى رفع إيراداتها عبر صادرات كهرباء السد، وتنمية الاقتصاد المحلي، حيث ينشئ المشروع شبكة تجارية جديدة بالمنطقة، وتطوير أنشطة صيد الأسماك، إذ سيوفر السد سعة تخزينية، ما يوفر فرص عمل متصلة بالصيد، وتنويع وزيادة توفير الغداء للسكان المحليين، والحدّ من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون عبر إنتاج طاقة نظيفة ومتجدّدة غير مضرة بالبيئة.
التقارير تؤكّد أن أهميّة السدّ بالنسبة للمواطن الإثيوبي كبيرة خاصة في مجال التزوّد بالكهرباء، فحاليا 68 مليون إثيوبي من مجموع 110 مليون نسمة يعيشون في ظلام دامس، ومن منطلق هذا الواقع تتمسّك أديس أبابا بتنفيذ مشروعها إلى النهاية، خاصة وهي مقبلة على مشاريع تنموية كبيرة في القطاعات الصناعية
والزراعية والتعليمية وغيرها، مما يعني أن بناء سد النهضة سيحدث وتبة اقتصادية تنعكس إيجابا على المستوى المعيشي للإثيوبيين.
السودان.. أضرار غير مرئية
بدأ السودان بعد قرار إثيوبيا بناء سدّ النهضة في 2011 متفائلا بما يمكن أن يجنيه من فوائد، خاصة بعد أن أصدر خبراء دراسات تشير إلى أن الخرطوم ستكون هي الأخرى من الرابحين وليس من الخاسرين، لكن مع مرور الوقت أخذت الخرطوم تتحسّس المخاطر وترفع صوتها إلى جانب مصر للمطالبة بمفاوضات تتوّج باتفاق يحمي أمنها المائي.
أوردت دراسة لمعهد ماساشتوستس للتكنولوجيا أعدّها 17 خبيرا دوليا في تخصّصات الموارد المائية من عدة دول عام 2014، أن السودان سيقطف ثمارا كثيرة من بناء إثيوبيا لسدّها المثير للجدل، منها وقف الفيضانات المدمّرة على ضفتي النيل الأزرق والنيل الرئيسي، تعدّد الدورات الزراعية بأن يصبح لدى السودان بعد اكتمال السد 3 دورات زراعية خلال العام بدلا من واحدة حاليا، زيادة توليد الكهرباء من السدود الحالية، الحصول على المزيد من الكهرباء الإثيوبية قليلة التكلفة، حيث يحصل السودان حاليا على 300 ميغاواط من إثيوبيا.
لكن بين الواقع والدراسات النظرية بون شاسع، فالسودان أصبح مدركا للخطر الذي يتربّص به إذا مضت إثيوبيا في ملء سد النهضة قبل التوصل إلى اتفاق، حيث إن احتمال انهيار السدّ وارد وخطر الفيضانات والغرق قائم.
كما أن عدم تنسيق إثيوبيا مع السودان خلال الملء الثاني، سيجعل السدود السودانية فارغة، وسينخفض معها مستوى نهر النيل، ولن تكون هناك مياه في محطات الشرب السودانية، ما يعرض البلاد لخطر داهم ونقص كبير في مياه الشرب والكهرباء، لهذا يجب التنسيق والتوصل لاتفاق حول الملء والتشغيل حتى تستطيع دولة السودان اتخاذ احتياطاتها.
مصر.. الأمن المائي خطّ أحمر
ترى دولة المصب مصر، التي تعتمد على النيل لتوفير نحو 97 بالمائة من مياه الري والشرب، في السدّ الإثيوبي تهديدا لأمنها المائي، وتخشى من تأثيره على إمداداتها من المياه، الأمر الذي قد يؤدي لموت جزء من أراضيها الزراعية الخصبة.
مخاوف مصر يؤيّدها الكثير من الخبراء الذين يعتقدون بأن السد وإن كانت مخاطره حاليا على مصر محدودة فتأثيره السلبي سيظهر على المدى البعيد، خاصة في سنوات الجفاف، لذلك تسعى القاهرة لاتفاق قانوني ملزم للملء والتشغيل يحقق لإثيوبيا هدفها من التنمية وتوليد الطاقة ويجنب مصر والسودان المخاطر السلبية الحالية والمستقبلية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الموقف المصري يتفهم الرغبة الإثيوبية في حماية أراضيها من الفيضان، وتوليد طاقة كهربائية نظيفة تقوم عليها بعض الصناعات وتخزين كميات كبيرة من مياه النيل، نظرا لموجات الجفاف التي تجتاح وسط القارة الأفريقية شبه سنوياً، إلى جانب استخدامها للنهوض بالاقتصاد الوطني لأثيوبيا، لكن دون أن يكون هنالك تأثير كبير على الوضع المائي المصري، ما يفسّر تمسّك القاهرة بالتشاور والتعاون مع أديس أبابا من خلال الحوار للوصول إلى إتفاق.
وتستند مصر في الدفاع عنّ موقفها، إلى ما تملكه من حقوق تاريخية في النهر بموجب اتفاقيتي 1929 و1959 اللتين لا تمنحانها حق الموافقة على مشاريع الري في دول المنبع فقط، بل وتضع في يدها حقّ استخدام الفيتو على أي مشاريع من شأنها التأثير على كمية المياه المتدفقة باتجاهها.
يبقى أن نشير، إلى أنه بين تباين المواقف وتضاربها تزداد أزمة سدّ النهضة تعقيدا، فاتحة «أبواب جهنّم» على المنطقة خاصّة مع ارتفاع بعض الأصوات من هنا
وهناك تدعو للمواجهة العسكرية، لهذا وتفاديا لأي تصعيد قد يلهب المنطقة ويحرق أهلها، لا بدّ من وضع آليات جديدة لتفعيل التعاون بين الدول النيلية في إطار «مبدأ رابح ـ رابح»، ووضع أطر الحوار الثنائي والجماعي، قَصْد التوصل لحل توافقي يُحقق الانتفاع العام والمنصف والعادل للموارد المائية المشتركة.
أزمة سدّ النهضة.. أو عندما يتحوّل الأمن المائي إلى مسألة حياة أو موت
فضيلة دفوس
شوهد:658 مرة