صمت المجتمع الدولي مبرّر لحتمية الحرب

اتّـجاهات النّزاع بين البوليساريو والمغرب

جلال بوطي

استمرار صمت الأمم المتحدة على الاشتباكات المسلّحة بين الجيش الصّحراوي والمغربي التي تكشف تفاصيلها يوميا بلاغات وزارة الدفاع الصحراوية، فيما ترفض الرباط وصف ما يحدث بأنّه حرب، وتكتفي بتأكيد إعادة الحياة إلى طبيعتها في ثغرة الكركرات أياما عقب الحادثة التي سقط بموجبها اتفاق وقف إطلاق النار الموقع بين طرفي النزاع سنة 1991..لكن اتجاهات التوتر  في ظل محيط إقليمي مفتوح على سيناريوهات متعدّدة تبقى مثيرة للجدل، وتفتح باب التساؤل حول مآلات النزاع في الوقت الراهن؟

بالرغم من مرور ثلاثة عقود على اتفاق وقف إطلاق النار بين جبهة البوليساريو والمغرب فيما بات يعرف بالحرب الأولى قبل 1991 بعد عودة الكفاح المسلح شهر نوفمبر المنصرم     (حرب ثانية)، يستحضر الصّحراويّون تلك المشاهد التي تحفظها ذاكرتهم وهم فخورون بنتائج الحرب الأولى، ويتّفق الجميع مع قرار عودة الحرب رغم اعتراف البعض بمرارتها، لكنهم يعتبرون قساوة الانتظار كانت أكثر وقعا على نفوسهم التواقة إلى الحرية والاستقلال قبل إعلان جبهة الساقية الحمراء ووادي الذهب الرد عسكريا على خرق المغرب الاتفاق العسكري رقم 01 بعد تدخله في ثغرة الكركرات يوم 13 نوفمبر المنصرم.
لم يكن يتوقّع نظام المخزن أن يتحوّل تدخل عسكري لفض اعتصام مدنيين صحراويين محتجّين أمام ثغرة الكركرات على الحدود الموريتانية الصحراوية عبر الطريق العازل إلى شرارة حرب ثانية، جعلته يتكتم على ما يجري يوميا من اشتباكات مسلّحة بين جنوده وجيش التحرير الصحراوي وفقا لبلاغات وزارة الدفاع الصحراوية التي تؤكد عودة التوتر، إلا أن غياب مشاهد حقيقية لذلك يثير الشك لدى البعض، لكن الأمم المتحدة اعترفت بوجود اشتباكات وفقا لتقارير بعثة تنظيم استفتاء تقرير المصير «المينورسو» التي أكّدت وقوع اشتباكات مسلّحة بين الطرفين.
خيار الحرب كان خطأ استراتيجيا وقع فيه المغرب، بينما جبهة البوليساريو من دعاة السلام وليس الحرب حسب تصريحات قيادتها في كل مناسبة، وما يبرر ذلك صبر الصحراويين منذ 1991 لتحقيق الاستقلال دون إسقاط وقف إطلاق النار في عدة أحداث سابقة شهدت مناوشات على طرفي الجدار العازل. غير  أن تماطل المجتمع الدولي طيلة ثلاثة عقود من الزمن في إيجاد حل نهائي للنزاع في الصحراء الغربية جعل صبر الصحراويين ينفد، وهم يستعدّون لخوض المرحلة الثانية من الحرب المفتوحة بعد الاستعداد الكامل للجيوش انطلاقا من تصريحات مسؤولي وزارة الدفاع الصحراوية.

الموقف الأمريكي

لم يكن قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حول الصّحراء الغربية مفاجئا حينما ربط الاعتراف المزعوم بقبول الرباط التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهو ما فهم أنه صفقة في إطار اتفاقات أبراهام التي وقّعت عليها دول عربية، لكن تلك الخطوة لم تغير كثيرا المعطيات بالنظر إلى تصريحات إدارة الرئيس جو بايدن الجديدة، حيث قال الناطق باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، خلال إحاطة إعلامية قدّمها في 22 فيفري ردّا على سؤال من أحد الصحفيين بشأن الصحراء الغربية «أعتقد أن ما قلناه بشكل عام لا يزال العمل به ساريا، نرحّب بالخطوات الجديدة التي اتخذها المغرب لتحسين العلاقات مع إسرائيل. العلاقات المغربية - الإسرائيلية ستكون لها فوائد على المدى البعيد على البلدين. سنواصل دعم المسار الأممي لتحقيق حل عادل ودائم لهذا النزاع الذي طال أمده، النزاع في المغرب. كما سندعّم عمل بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية لمراقبة وقف إطلاق النار ومنع العنف في المنطقة».
وفي هذا الشأن، يوضّح الباحث في حل النزاعات الدولية، بلة لحبيب بريكة، لـ «الشعب ويكاند»، أن هذا أول موقف رسمي يصدر عن الإدارة الأمريكية الجديدة بخصوص الصحراء الغربية. مستهل حديث برايس «ما قلناه عموما لا يزال ساري به العمل» غير واضح، ولا نعرف ماذا يقصد «بساري به العمل»، خاصة أنه لم يسبق أن تحدّثت الإدارة الجديدة عن الصحراء الغربية، حيث أن سؤال الصحفي كان محدّدا «فيما يخص الصحراء الغربية، هل هناك جديد فيما يتعلق بالمراجعة التي تقومون بها حول سياستكم هناك؟».
ويؤكّد الباحث أنّ الشق الأول من إجابة برايس كان حول العلاقة بين إسرائيل والمغرب، وهو ربط تقوم به الإدارة الأمريكية في الآونة الأخيرة، كلما أثيرت قضية الصحراء الغربية. ويقول إنّهم «سيدعّمون حلاّ عادلا ودائما لهذا النزاع الذي طال أمده، النّزاع في المغرب». ومع تغيير واشنطن لبعض سياستها تجاه الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أشار بلة لحبيب إلى غموض في تصريح الناطق باسم الخارجية الامريكية بقوله «النزاع في المغرب»، هل هي مقصودة، أم هفوة أو عدم إلمام عميق بالنزاع من طرف الناطق باسم الخارجية؟ مع أن الرد كان معدا سلفا، وفي العادة الخارجية تنتقي عباراتها بدقة. كما أنه ورد في التصريح أنهم «سيدعمون عمل بعثة المينورسو لمراقبة وقف إطلاق النار ومنع العنف».
وفي هذا الصدد، قال الباحث «هناك فرق بين دعم بعثة المينورسو الذي يشمل جميع مهامها بما فيها استفتاء تقرير المصير، وبين دعم البعثة لمراقبة وقف إطلاق ومنع العنف الذي هو فقط إحدى مهامها، موضّحا أن التصريح كان مدروسا بعناية وصيغ بطريقة غامضة، بحيث يسعى أنّ لا يغضب أي من الطرفين. المغرب قد يراه مكسب لأنّ إدارة بايدن يبدو أنها لا تتراجع عن الاعتراف له «بالسيادة على الصحراء الغربية»، والبوليساريو قد تراه أنّه موقفا يحدث قطيعة مع توجه ترامب ويدعو  إلى حل في إطار الأمم المتحدة. إذ ليس ثمّة في التصريح ما يدعو لقلق الرباط  لأنّ الاعتراف لها بـ «السيادة» المزعومة لم يلغ، ولا يدعو لقلق البوليساريو لأنه يتبين أنه لا يعمل به. وليس ثمة ما يقلق إسرائيل لدعمه لاتفاقات أبراهام. في خضم كل هذا، يبقى الانطباع للجميع أنّ الموقف الأمريكي من «السيادة» لم يتم البت فيه.

بايدن واعتراف ترامب

لم يتبلور بعد موقف إدارة بايدن من اعتراف ترامب بـ «سيادة» المغرب المزعوم على الصحراء الغربية، مع أن المؤشرات حسب الدكتور بلة تدل على أنه قد لا يخرج عن هذا التوجه،  ومن المرجح جدا أن تجمع الإدارة الجديدة بين المتناقضات في قضية الصحراء الغربية؛ الإبقاء على موقف الدولة الأمريكية  بـ «سيادة» المغرب الوهمية على الصحراء الغربية وتبني موقف معاكس له، يدعّم تسوية في إطار الأمم المتحدة. لأنه في الواقع، أمريكا أمام خيارات صعبة؛ ترى أن التراجع عن الإعتراف بـ «سيادة» المغرب على الصحراء الغرببة قد يؤثر  على اتفاقات أبراهام بين إسرائيل والمغرب، إذ لا تريد أن تقوض الاختراقات التي حقّقتها إسرائيل في الشرق الأوسط. يكفي من الأضرار لإسرائيل أنّها جمدت صفقة الأسلحة مع الإمارات التي كانت جزءا من الاتفاقات، وفي طريقها إلى العودة إلى الإتفاق النووي مع إيران الذي تعارضه إسرائيل.
أما السيناريو الآخر هو أنّه قد يكون هناك امتعاض من إدارة بايدن والأوروبيين من سلوك المغرب المتعلق بخرقه لوقف إطلاق النار، إلا أن الرباط رمت بنفسها في أحضان أمريكا وإسرائيل بسبب المأزق الذي وقعت فيه. لأن التراجع في موقف الإعتراف بـ «السيادة»، وإن كان قرار صائب، قد ينسف المغرب، الذي يراه الغرب دولة هشة، ويعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية وصحية، تجعله «سريع الالتهاب» حسب الباحث.
بعد عودة الحرب يطرح متابعون للنزاع مسألة قوى الموازين وتأثير الوضع الإقليمي والداخلي للمغرب على الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة، إذ يرى محلّلون أنّ الرباط قد تطلب المساعدة من حلفائها بمن فيهم إسرائيل وبعض دول الخليج التي ساعدته في الحرب الأولى، إلا أن الوضع الراهن تغير بشكل كامل والمعطيات تختلف في ظل جائحة كورونا وتداعياتها على الدول.
وفي هذا السياق، أوضح الباحث، بلة لحبيب، أن المغرب ما يزال يتخبط في الوضعية التي وقع فيها بعد خرقه لوقف إطلاق النار. ولمّا قام بمقايضة فلسطين مقابل الإعتراف لها بـ «السيادة» على الصّحراء الغربية، لم يكن يريد إعترافا «على الورق»، بل هدفه أن يتجسّد عمليا في مواقف كفتح قنصلية أمريكية في الداخلة المحتلة، وفرض الحكم الذاتي كأرضية للحل، والخروج من مأزق خرق وقف إطلاق النار. وكان يرى في موقف إدارة ترامب فرصة لحشد مواقف الدول الأوروبية حول الإعتراف له بـ «السيادة» وفرض مقترح «الحكم الذاتي» كخيار وحيد للحل.
وكان الاجتماع الافتراضي العاجل حول حشد الدعم للحكم الذاتي، الذي دعا إليه وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة وحضره مستشار وزير الشؤون الخارجية الأمريكي المكلف بالشرق الأدنى ديفيد شينكر، وقاطعته أوروبا، عدا فرنسا، لم يحصد النتائج المرجوة لأنّ فرض سياسة الأمر الواقع أصبحت غير ممكنة بعد إستئناف الكفاح المسلح، وهو ما يدفع المغرب إلى الإسراع في محاولة حشد الدعم لفرض مقترح الحكم الذاتي.

 توتّر مع أوروبا

كما دخلت الرباط منذ خرقها وقف إطلاق النار في توتر مع بعض البلدان الأوروبية، وتعتبر إسبانيا المستعمر السابق للصحراء الغربية أول المتذمرين من قرار ترامب حول مسألة الاعتراف، وبدا ذلك في حرب تصريحات بين مدريد والرباط حول استفراد الأخيرة بحل لا يخدم المنطقة على أساس أن الحل يكمن في تطبيق لوائح الأمم المتحدة القاضية بتنظيم استفتاء تقرير المصير، إذ رأت إسبانيا خطوة المغرب تهديدا لأمنها واستقرارها بحكم العامل الجغرافي، وتجلت الخلافات في تأجيل القمة الوزارية رفيعة المستوى مرتين قبل نهاية شهر فيفري، وتؤكّد المعطيات إلى إلغائها تماما لتعمق الخلاف، بعد تصريحات رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني حول مدينتي سبتة ومليلة بأنها مدن محتلة.
وبدأت دائرة الخلافات بين المغرب وبعض دول داخل الاتحاد الأوروبي تتّسع حول مواقف الدول من نزاع الصحراء الغربية، حيث دعا وزير الخارجية المغربي كل الوزارات لـ «تعليق كافة أشكال التواصل والتفاعل والتعاون في جميع الحالات، وبأيّ شكل من الأشكال مع السفارة الألمانية وهيئات التعاون الألمانية والمؤسسات السياسية التابعة لها». وجاءت خطوة ناصر بوريطة احتجاجا على رفع علم الجمهورية العربية الصحراوية، أمام مبنى برلمان مدينة بريمن الألمانية وعلقت نائب تنتمي إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني بالقول «الحرية لآخر مستعمرة في إفريقيا».
وفي هذا الشأن، قال أستاذ تسوية النزاعات الدولية في جامعة ميسن بواشنطن الدكتور محمد الشرقاوي، إن قرار الرباط تعليق العمل مع سفارة ألمانيا خطأ كبير، متسائلا «هل يستوي المنطق السياسي حقيقة لردة فعل ابوريطة ومن خلفه الحكومة المغربية على تصريح نائب لا يلزم لا الحزب الديمقراطي الاجتماعي ولا حكومة ميركل في هذه المرحلة؟»، ولماذا تمعن الرسالة في موقف تصعيدي في الرباط، بدلا من إتباع دبلوماسية جدلية وتفاعلية تسعى لتقريب المواقف بدلا من تصلّبها مع برلين وغيرها؟».

ضعف دبلوماسية الاحتلال

 أوضح الدكتور الشرقاوي أنّ طبيعة الأزمات والصّراعات تبدأ بخلاف محدود ثم تتحوّل إلى صراعات مفتوحة، معتبرا قرار الرباط غير صائب ويؤكّد ضعف الدبلوماسية المغربية مع بداية تداعيات النزاع في الصحراء الغربية.
وفي 21 ديسمبر المنصرم، دعا مندوب ألمانيا في الأمم المتحدة كريستوف هوزكن لعقد جلسة في مجلس الأمن في ضوء أحداث الكركرات. وقال «نريد التشديد مجددا على النقطة التي دأبنا على المناداة بها خلال العامين الماضيين: بالنسبة لنا، حل النزاعات بطريقة سلمية يعني الالتزام بالقواعد وتنفيذ قرارات مجلس الأمن والقانون الدولي»، لكن الدكتور الشرقاوي يرى أن رسالة بوريطة ستدفع برلين إلى إعادة حساباتها ضمن سياق إقليمي ودولي مرن، وتداعيات ميزان القوة المتحرك في منطقة البحر المتوسط، إذ تميل الخارجية المغربية نحو توسيع قائمة الدول التي لم تعد تربطها علاقات إيجابية مستقرة ومنها الجار ة القريبة إسبانيا، هولندا وبلجيكا، ناهيك عن الدول الاسكندينافية التي لا تناهض احتلال  المغرب للصحراء الغربية.
ويؤدي خلافات المغرب مع أوروبا إلى إمكانية عزله إقليميا حسب الباحث الشرقاوي، لأنه ليس من الحكمة حاليا توسيع نطاق القطيعة والتوتر مع العواصم الأوروبية، ممّا سيعزّز دعاوى سياسية لوضع المغرب في نطاق عزلة إقليمية. ولا تزال النخب في تونس والجزائر وليبيا تناقش دعوة راشد الغنوشي رئيس البرلمان التونسي وزعيم حركة النهضة قبل أيام لبناء اتحاد مغاربي ثلاثي الأضلاع دون عضوية المغرب وموريتانيا. وهذا مؤشّر آخر على توجس النخب المغاربية والعربية ممّا يتردّد على أنه «تطبيع مع إسرائيل»، ولم يعد من السهل بالنسبة للرباط إقناع الشارع العربي والإسلامي بأن الدولة المغاربية التي تدعي الأكثر دفاعا عن حقوق الفلسطينيين، وإن لوّحت بأنها لا تزال رئيسة لجنة القدس.

البوليساريو وتحديات المرحلة

البوليساريو تأمل أن يصحّح بايدن موقف الدولة الأمريكية بخصوص الإعتراف بـ «سيادة» المغرب على الصحراء الغربية، لكنها كانت تتوقع أقل من هذا التصريح، وحتى وإن بدا غامضا، يظهر تمسك الإدارة الأمريكية بالمسار الأممي. فخرق المغرب لإتفاقية وقف إطلاق النار، وخروج جبهة البوليساريو منها، كان مفيدا سياسيا لهذه الأخيرة، لأن العملية السياسية صارت عبئا عليها و انحرفت عن مسارها. البوليساريو قد تكون المستفيد الأكبر من الوضعية الجديدة، وعلى الأرجح ستشكل مصدر قوتها في الوقت الراهن وفي أي تسوية سياسية في المستقبل.
ويبدو نزاع الصحراء الغربية لا يستأثر إهتمام إدارة  بايدن مقارنة بتحديات أخرى في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن استئناف الحرب تعني خروج النزاع من دائرة عدم الاهتمام الدولي ومن النزاع المحدود إلى نزاع يمس الأمن الاستقرار في المنطقة، وله انعكاسات على أمن أوروبا التي تضعها إدارة بايدن ضمن سلم أولوياتها بعد ملف الصين. ومن المتوقع أن يعكف الأمريكيون بالتنسيق مع الأوروبيين على الدفع بتعيين مبعوث جديد إلى المنطقة، وسيكون التحدي الأكبر أمامه وقف إطلاق النار والدعوة إلى المفاوضات.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19633

العدد 19633

الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024
العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024
العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024