بعدما كانت تحتلّ المشهد السياسي والإعلامي العالمي لسنوات، عاد التعتيم ليلفّ الأزمة السورية التي توارت وراء أزمات ونزاعات كثيرة تفجّرت بعدها، وهي اليوم تصنع الحدث وتشدّ الانتباه.
بعد عشر سنوات، لم يعد أحد يلتفت إلى المعضلة السورية، طبعا فالمهمّة القذرة اكتملت، وذرّة الشام تحوّلت إلى أطلال بعد أن دمّر بنيانها وهجرها أهلها الذين تاهوا في المنافي والملاجئ يترقّبون العودة، لكن هذه العودة لن تكون غدا وقد لا تكون أبدا.
اليوم سنحاول كسر جدار التعتيم واللامبالاة، لنقف عند تطوّرات الوضع في سوريا الجريحة، سواء تعلّق الأمر بالمستجدات العسكرية والسياسية أو بالشأن الاقتصادي والاجتماعي، ففي الجانب السياسي، يبدو أن صمود النظام السوري واستمراره في قيادة البلاد برغم ما تعرّض له من هزّات وضربات وضغوط، قد مكّن من تفادي الوقوع في الانهيار المؤسساتي والفراغ الهيكلي الذي أدخل دولا كثيرة في الفوضى والعنف وهو يمنعها من إعادة بناء مؤسسات الحكم كما يجري في ليبيا.
القوّات النّظامية تحرّر معظم الأرض
عسكريا، ورغم عدم اكتمال عودة الاستقرار الأمني، بحيث تسجّل خروقا مستمرّة لوقف القتال في محاور عدّة، فالمؤكد أن سوريا تركت الحرب وراءها، إذ تراجع صخب السلاح وأزيز الطائرات، وخفّ صوت القصف والقنص بعد أن استكملت القوات النظامية بدعم روسي تحرير معظم أراضي البلاد من قبضة مجموعات المعارضة المتاجرة بالدّم السوري، وتنظيم «داعش» الإرهابي الذي تمّ تصنيعه خصّيصا لتدمير هذه الدولة العربية العريقة التي ظلّت ولازالت ترفع لواء المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.
وتؤكّد خريطة النفوذ العسكري في البلاد، محافظة قوات النظام السوري على أزيد من ثلثي المساحة بنسبة تتجاوز 70 في المائة، بينما تسيطر قوات سوريا الديمقراطية على أقل من ربع مساحة البلاد، لتستأثر فصائل معارضة ببعض الأراضي في الشمال.
كلفة الحرب باهظة والإعمار مهمّة صعبة
لا نحتاج إلى ذكاء خارق لنكتشف بأن كلفة الأزمة الدموية التي عصفت بسوريا لعشرة أعوام كاملة باهظة جدّا، حيث تكبّد الاقتصاد السوري حسب بعض المصادر، خسائر تجاوزت 500 مليار دولار، كما تضرّر 40 في المائة من البنية التحتية ما تسبّب في خسارة نحو 65 مليارا.
أما عدد الوفيات المرتبطة بالنزاع - والأرقام هنا غير رسمية وهي متضاربة - فقد بلغ 690 ألف شخص بينهم 570 ألفا قتلوا بشكل مباشر نتيجة النزاع، الذي أدى إلى خروج 13 مليونا من بيوتهم نازحين ولاجئين.
ولا شك أن أرقام الخسائر هذه تشكل تحديا كبيراً لأي مخطط لإعادة إعمار سوريا خصوصاً في ضوء الوضع الداخلي والأزمات الاقتصادية في العالم تحديدا مع وباء كورونا، وأيضا العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على سوريا تحت عنوان «قانون قيصر» والتي زادت من حدّة هذه الأضرار، بالإضافة إلى أن الكثير من الدول الغربية المقتدرة كأمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا لم تبد أي حماس أو رغبة في تقديم أي مساعدة لإعمار سوريا إلا بشروطها.
الإرهاب انحسر لكنّه لم يندثر
كان أول ظهور للتنظيمات الإرهابية كتنظيم «داعش» في سوريا بداية من 2013، ما جعل واشنطن تتدخل على رأس تحالف دولي لشنّ حرب على الإرهاب انتهت بإعلان القضاء على ما يسمى « الخلافة» قي مارس 2019، لكن رغم إعلان النصر هذا، فإنّ الخطر الإرهابي مازال قائما، وخلايا «داعش» لا تزال قادرة على شنّ هجمات عنيفة وموجعة.
اللاّجئون..الوجع الكبير
أنتجت الأزمة السورية معضلة إنسانية لم يشهدها التاريخ مند الحرب العالمية الثانية، تجسّدت خصوصا في ملايين اللاجئين الذين فرّوا من جحيم الحرب إلى الخارج بحثا عن الأمن والأمان، وبعد مضيّ عقد كامل من التيه والتشرّد، بدأ الحديث عن عودة اللاجئين، حيث دعاهم الرئيس بشار الأسد قبل أسابيع للرجوع إلى الوطن وعقد مؤتمرا دوليا للغرض يومي 11 و12 نوفمبر الماضي قاطعته الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وبالمناسبة ألقى الأسد باللوم على العقوبات الأمريكية وضغوط واشنطن على الأمم المتحدة والدول المجاورة في عزوف السوريين عن العودة.
وقد بدا الرئيس السوري مقتنعا بصعوبة تجسيد العودة في الظرف الحالي بالنظر الى المصاعب التي تواجهها سوريا، حيث قال: «نحن اليوم نواجه قضية مركبة من ثلاثة عناصر مترابطة، ملايين اللاجئين الراغبين في العودة ومئات المليارات من بنية تحتية مدمرة وإرهاب ما زال يعبث في بعض المناطق».
صعوبة عودة اللاجئين السوريين لا ترجع إلى غياب الظروف المناسبة فقط، بل هناك رفض مطلق من فئة كبيرة من اللاجئين تصر على ربط عودتها برحيل الرئيس يشار الأسد.
هذا ومع إحجام اللاجئين المقيمين اليوم في دول أوروبية عن العودة، فقد تمّ تسجيل عودة طوعية لعدد محدود من دول الجوار بالنظر الى أنهم يواجهون هناك ظروفا صعبة.
الخاسر والرّابح
بعد صراع استمر عشر سنوات، يحقّ لنا اليوم أن نتساءل عن الخاسر والرابح في سوريا، والجواب قد لا يكون بالسهولة التي نعتقد، فالبعض يقول بأن نظام بشار الأسد هو المنتصر لأنّه مازال في السلطة، والبعض الآخر على العكس تماما يراه المنهزم الأول، لأن سوريا في ظلّ حكمه شهدت أشرس حرب وأكبر دمار، لكنّني شخصيا أعتقد بأن الشعب السوري هو الخاسر الأكبر وربّما الوحيد، فالحرب شرّدته وقضت على أمنه وقوته ومسكنه، وغرست في نفسه الحقد والطائفية والانقسام، وحوّلته إلى واحد من أفقر شعوب المعمورة، حيث تصدّرت سوريا قائمة الدول الأكثر فقرًا في العالم، بنسبة بلغت 82.5 %.
وهذا الرقم وحده يكفي ليعكس الفاتورة الباهظة التي دفعها السوريون ولا زالوا منذ 2011.