كم كانت مميزة تلك السهرة الثالثة من سهرات المهرجان الثقافي الدولي “الصيف الموسيقي بالجزائر”، كيف لا وشاعر جرجرة الحكيم، لونيس آيت منقلات، قد أنار ركحها وهزّ أركانها، وأمتع جمهورا متجاوبا متعطشا للفن الأصيل والكلمة الهادف؟ لونيس، كعادته، لم يفوّت الفرصة ليؤكد على أن الأغنية الملتزمة ما تزال حية، وأن الجزائر، بمختلف أطيافها وألسنتها، ما زالت بخير.
كان وقوف الجمهور وتصفيقه حين استقبال آيت منقلات دليل الاحترام الذي يكنّه له محبّوه، فهم لا يرون فيه مجرّد مغنّ فقط، وهو الذي قضى ما يقارب نصف قرن من الزمن في الإبداع والدفاع عن الأغنية الملتزمة.
أجواء لا يصنعها سوى “الحكيم”
واستهل “الحكيم” حفله، الذي أحياه الخميس بمسرح الهواء الطلق سعيد مقبل بغابة الأقواس برياض الفتح، استهلّه بـ “أذ يظول ساندا أنروح (الطريق بعيد حيث نذهب)”، ثم “نوكني أراش نلدزاير (نحن شباب الجزائر)”، التي تحدث فيها عن هموم وآمال الشباب الجزائري، داعيا إياه إلى الاتحاد والتآخي، ليكرس شعار المهرجان “الجزائر موحدة بالموسيقى”.
وفي “أوغالد أيا غريب” التحم صوت الفنان بصوت الحاضرين، فتحقّقنا بأنه استحوذ تماما على قلوبهم تلك الليلة. كما استمتع جمهور آيت منقلات بعناوين منها أغنية “تلتيام ذي لعمريو (عمري ثلاثة أيام”، و«والاغ (رأيت)”، “آور يتساجا (لا تتركيني)”، و«اسفرا” وهو عنوان ألبومه الأخير، كما قدّم نجله جعفر آيت منقلات أغنيتين. ولم تكن فرحة الحفل لتكتمل دون أن يؤدي لونسي أكثر أغانيه شعبية، مثل “أطّس أطّس ما زال لحال (نمْ نمْ لا يزال الوقت مبكرا)” و«اكتشيني روح نك اذقيماغ (اذهب أنت أنا باقٍ هنا)” التي اختتم بها سهرة كانت كلها بهجة وتفاؤل.
كلّنا أبناء وطن واحد
قبل ذلك، كان للفنان آيت منقلات لقاء مع الصحافة، بقاعة فرانز فانون برياض الفتح، كشف فيه عزمَهُ على أخذ سنة كاملة للراحة، سنة قد تكون فرصة للإعداد لألبوم جديد، كما أنها ستسمح له بالتحضير للاحتفال بـ 50 سنة من العطاء الفني.
وتعتبر هذه السهرة التي أحياها الفنان في إطار مهرجان “الصيف الموسيقي بالجزائر” خاتمة لجولة فنية بدأها سنة 2014، وقدّم فيها ألبومه الأخير “إسفرا (الأمل)”، جولة كان فيها من المحطات ما أثر فيه بالغ التأثير، ذكر من بينها عنابة، القالة وسعيدة، “محطات ذكرتني بأيام الشباب” يقول آيت منقلات.
وفي إطار هذه الجولة الفنية، جاب آيت منقلات مدنا كثيرة منها من كان جديدا عليه، واكتشفها بسعادة غامرة، وهناك لاحظ أن جمهوره ليس فقط من منطقة القبائل أو ناطقا بالأمازيغية، فهناك غيرهم ممّن يأتون للاستماع لألحانه ويحاولون فهم ما يقول: “جمهوري جزائري في مجمله وأنا سعيد بتنوعه..إن المبادرة بالتقارب متبادلة بيننا وبين المعربين، ما يدل على وجود مشاعر مشتركة بأننا أبناء وطن واحد، وبأننا كلنا جزائريون”. ويضيف: “يجب أن نبذل ما بوسعنا ليفهم كل منا الآخر”.
“الأغنية الملتزمة باقية..
وابني جدّد مساري الفنّي”
وأكّد آيت منقلات أن في قلبه مكان لكامل جمهوره، جمهور تابعه على مدى نصف قرن من العطاء الفني، ولكنه لم يقتصر على جيل معين، بل ما فتئ يتجدّد ويتدعم بشباب متطلع لاكتشاف أغاني لونيس الملتزمة، وهو على الأقل ما لاحظه المطرب حينما يعتلي الخشبة. وعن الأغنية الملتزمة يقول آيت منقلات إنّها أغنية تعتمد على نص مؤلف بشكل عميق من الصعب استطلاع دواخله، وعبّر الفنان عن غبطته حينما يرى الناس يجتهدون في فهم هذه النصوص وولوج معانيها، وأكد على أن الأغنية الملتزمة ما يزال لها مستقبل.
وعن علاقته بنجله جعفر، قال لونيس آيت منقلات إن مساره الفني عرف وجهة مختلفة منذ أن بدأ بالتعاون مع جعفر، الذي اعتبره ذراعه الأيمن، فقد أدخل آلاتٍ وأصواتا موسيقية جديدة وبات يتكفل بالتوزيع الموسيقي، “أتمنى أن يكون جعفر إلى جانبي ما دامت لديّ قوة على مواصلة الغناء”، يقول لونيس.
القيمة الثّابتة
ما يجدر بنا قوله هو القيمة الثابتة لعدد من الفنانين الجزائريين، سواء داخل الوطن أو خارجه، فنانون يملأون القاعات عن آخرها، يدفعون من يحفظ أغانيهم إلى ترديدها معهم، ومن لا يحفظها إلى الرغبة في سماعها مجددا، يشرفون الجزائر حينما يصفونها إلى الآخر، وينقلون تراثها في صورة مشرقة تعبر عن الأجيال التي مرّت من هنا، وتركت بصمتها في هذه الأرض الطاهرة.
لونيس آيت منقلات أحد هؤلاء الفنانين، يكتب شعرا ويلحن ويؤدي ويعزف، وينأى بأغانيه عن الضحالة الفنية والسعي وراء الشهرة المؤقتة، وتضمن مشاركته نجاح كلّ حفل أو مهرجان، تماما مثلما أنجح سهرة من أجمل سهرات صيف الجزائر المزدان بعذب الألحان ودافئ الكلمات.