في الوقت الذي كانت تشهد فيه الثورة الجزائرية أهم مراحلها من اجل استعادة السيادة والتحرر من قيود الاستعمار الفرنسي، والتخلص من الحصار الذي فرضه الاحتلال
على الثورة، بسبب الانتصارات المدوية التي أصبحت تتضح للعالم وعلى جميع الأصعدة، بدأت تتبلور لدى القيادة العليا للثورة الفكرة بحتمية توسيع دائرة الكفاح وفتح جبهة جديدة تخفف
الضغط وتزيد من صدى الثورة في الداخل والخارج. هكذا نشأت القاعدة الجنوبية بالصحراء التي ترصد “الشعب” خلفياتها وإبعادها ودلالاتها
اعتمادا على شهادات حية من صانعي التحرر الوطني بتمنراست في ذكرى الستينية.
جاءت القاعدة الجنوبية في الصحراء، لتعزز الانتصارات التي كانت قد حققتها الثورة وإبطال فكرة تقسيم الوطن التي أصبح المستعمر يسعى إلى تحقيقها، كان التوجه إلى أقصى جنوب الوطن وبالتحديد جنوب منطقة الأهقار والتي شهدت مقاومات شعبية عديدة إلى أن وصل صدى الثورة بتنظيمها المحكم والذي جعل من سكان المنطقة يواصلون الكفاح ويلبون نداء نوفمبر للتخلص من الاستعمار، “الشعب” تبرز أهم مراحل الكفاح الذي مرّ على المنطقة الجنوبية للوطن من خلال شهادات لمجاهدين وأعيان وأساتذة في المنطقة.
ذكر لنا مجاهدون وأساتذة تاريخ بتمنراست حقائق عن الظروف الممهدة للقاعدة الجنوبية بالصحراء قائلين في شهادتهم انه بحلول سنة 1956، قامت قيادة الثورة ممثلة في قائد الناحية السادسة أحمد بن عبد الرزاق المدعو السي الحواس بتكليف (جغابة محمد) بتنصيب خلية في كل من عين صالح وتمنراست خلال هذه المرحلة.
أكد برادعي مولاي عبد الله من أعيان المنطقة وعضو برلماني سابق في هذا الصدد لـ«الشعب”، أن هذه الخلية والتي كانت بقيادة الحاج موسى أخموك ونائبه مولاي أحمد المدعو (مولاي لكحل). لكن إكتشفت من طرف أجهزة الإحتلال الفرنسي واعتقل أعضائها وتوقف عملها، وكانت هذه المرحلة بمثابة مرحلة تمهيدية لتوغل الثورة جنوبا.
تأسيس الجبهة الجنوبية 1960 / 1962
تعود فكرة تأسيس الجبهة الجنوبية حسب الباحث كديدة مبارك إلى المفكر فرانز فانون من أجل إيجاد حل لاختناق الثورة في الشمال بسبب خطي شال وموريس واثرهما في حصار الحدود الشرقية والغربية.
كان فانون ممثلا لجبهة التحرير في غانا نظرا لعلاقاته الحميمية مع عدد من القادة الأفارقة لعب دورا كبيرا في تجسيد الفكرة من خلال إقناعه للرئيس الغيني احمد سيكوتوري و المالي موديبو كايتا والذين سهلا مهمة الوفد الاستطلاعي الذي أرسل مطلع سنة 1960م بقيادة كل من فرانز فانون، الطيب فرحات، بن سبقاق أحمد، صدار السنوسي، أبو الفتح، سي العربي وسي علي.
انطلق هؤلاء القادة ضمن وفد جزائري من غانا إلى غينيا على متن الطائرة وبسبب خشية اكتشافهم من قبل المخابرات الفرنسية تنقلوا من غينيا إلى باماكو برا، ووقف الوفد ميدانيا على إمكانيات فتح جبهة جنوبية، من أهدافها حسب مدير مصلحة المحافظة على التراث الثقافي والتاريخي زناني جلول لـ«الشعب” إشاعة اللامن بالجنوب لأنها منطقة حساسة إقتصاديا بالنسبة للمستعمر وكذا التأكيد على وحدة التراب الوطني وإجهاض فكرة المستعمر حول التقسيم.
ولتجسيد الفكرة عملت قيادة الأركان بقيادة العقيد هواري بومدين الرئيس الأسبق للجزائر على فتح الجبهة الجنوبية، حيث أرسل كل من الرائد عبد العزيز بوتفليقة قائد عسكري وسياسي للمنطقة رئيس الجمهورية حاليا الملقب بعبد القادر المالي، وعبد الله بلهوشات مكلف بالشؤون العسكرية ومحمد الشريف مساعدية مكلف بالشؤون السياسية وأحمد دراية مكلف بالإتصالات وعيساني شويشي مكلف بالتموين والطبيب بشير معناك المدعو نور الدين مكلف بالشؤون الصحية، لقيادة هذه الجبهة.
تنقل هؤلاء من تونس إلى غينيا جوا ثم واصلوا طريقهم إلى مالي واستقرت بقاو واتخذوها مركزا للقيادة، حيث أكد داحاج محمد رئيس إتحاد الجزائريين بإفريقيا الغربية في هذا الصدد لنا: “أن حاكم (قاو) (بكاراديالو) هو من إستقبل الوفد و قدم له جميع التسهيلات.
قام عبد القادر المالي بوضع جميع الترتيبات وتمهيد الأرضية لبداية العمل الميداني، كما أضاف المجاهد زناني بكاي والذي يعتبر من بين الأوائل الملتحقين بالجبهة الجنوبية سنة 1960.
قال لنا زناتي مفصلا أكثر: “بعد ذهاب عبد القادر المالي قام المرحوم عبد الله بلهوشات كونه مكلف بالشؤون العسكرية بإنشاء معسكر للتدريب بـ (كيدال) رفقة أحمد درايا ومحمد الشريف مساعدية، والذين قاموا بتجنيد وتعبئة المناضلين من أجل تجنيد الجالية الجزائرية المقيمة في هذه المناطق حيث لعب في هذه المهمة الدور الكبير المجاهدين مثل زافزاف حمو، مرموري لخريف وأيضا من داخل الجزائر وخاصة منطقة الهقار وتوات. في تمنراست كان المكلف بالمهمة المرحوم مولاي أحمد وباحبي، حيث كانت العملية تتم في سرية تامة يؤدي فيها المجندون اليمين وينتقلون بشكل سري إلى مراكز تدريب جيش التحرير في مالي.
كان التنقل يتم مع قوافل التجار أو بالحصول على رخص المرور بدعوى التداوي في النيجر أين كان هناك مركز لجمع التبرعات التي تبعث من تمنراست عن طريق مولاي أحمد، تجمع تحت إشراف حاج محمد أقاسم، بن قرينة بدة وحاج حماد بنيامي ومنها تبعث رفقة المجندين إلى مراكز التدريب بكيدال شمال مالي.
وبعد هذه الخطوة وبعد إتمام التدريب للمجاهدين، أصبح من الضروري نقلهم بسرية تامة إلى داخل التراب الوطني حسب شهادة المجاهد بكاي زناني، مضيفا أنه تم إدخال المجندين إلى تمنراست سنة 1961، وذلك على طريق منطقة (تيلولين) ضواحي (رقان) وتمت عملية إدخال المجادين مع قطيع المواشي وعلى دفعات.
وإحتضنت منطقة (داغمولي) 50 كلم عن تمنراست أولى دفعات المجندين، حيث تعتبر من أهم المعسكرات السرية، أين بقى المجاهدون لمدة 03 أشهر لأسباب جغرافية كانت تتميز بها المنطقة بحيث أنها كانت مكشوفة.
وهناك قام المجاهدون بقيادة أحمد درايا، مولاي أحمد برادعي، قمامة إيلو باختيار منطقة تسمى بـ (تاهرت) 60 كلم عن تمنراست وبضواحي أبلسة وهي واحة حصينة بفضل جباله، حيث قام قمامة إيلو إيمغي بتهيئة المنطقة وإخلاء السكان منها لضمان توافد المجندين من تمنغست بسرية تامة.
عمق الثورة الإفريقي
أكد الباحث و الأستاذ الجامعي كديدة مبارك في شهادته لنا: “أن الثورة إزدادت عمقا من خلال خلقها للقاعدة الجنوبية، حيث شاركت عدد من الدول الإفريقية وخاصة مالي التي إحتضنت معسكرات الجبهة الجنوبية في كل من قاو، كيدال، أقلهوك، تساليت وأنتديني وغيرها من المعسكرات.
كما قامت النيجر بتسهيل عبور المجندين إلى معسكرات التدريب، كما أن عمق الثورة إمتد حسب الباحث إلى غانا من خلال ممثل جبهة التحرير الوطني في اكرا فرانز فانون الذي عمل من أجل الإستفادة من جميع الجهود الإفريقية، وهذا بفضل علاقاته مع عدد من قادة الدول، ما جعل الثورة الجزائرية تستفيد من محيطها الإفريقي وتوظفه في كفاحها من اجل استرجاع السيادة.
وتبقى الجبهة الجنوبية حلقة من أهم الحلقات التي ساهمت في ثبات الموقف الجزائري من خلال المفاوضات التي سبقت الإستقلال، وهذا بما قدمته من دعم إستراتيجي للثورة من خلال تأسيسها في وقت جد مميز، ومن طرف قيادات محنكة.
مما يحتم ضرورة تدوين شهادات وأحداث هذه الحقبة من طرف كل الفاعلين من أجل المحافظة على الذاكرة والمنجزات.
أكد في هذا الصدد رئيس الجمعية الولائية التاريخية إينيكر الشيخ ليتيم لـ«الشعب” سعي الجمعية من خلال عرضها لأهم الصور ومنشورات جيش التحرير آنذاك مساهمة منها في التاريخ لأحد روافد النضال التحرري الجزائري بالجنوب الكبير وتنمراست عاصمة الاهقار المثال الحي. وهي عاصمة انخرطت مبكرا في معركة الحرية وتقرير المصير رافضة أن تبقى الجزائر تدنّس من استعمار استيطاني فرنسي.
المقاومة الشعبية في منطقة تيدكيلت و الأهقار
عرفت منطقة التديكلت والأهقار معارك عديدة من طرف السكان من أجل التصدي للاحتلال الذي واصل زحفه من أجل بسط سيطرته على كافة التراب الوطني ومن أهم هذه المعارك حسب الباحث والأستاذ (كديدة مبارك) لـ “الشعب”.
^ معركة الفقيقيرة: شرق مدينة عين صالح (تبعد عنها حوالي 20كلم) وقدر عدد المقاومين المحليين بحوالي ألف ومائتين (1200) يتزعمهم الحاج المهدي باجودة.
أسفرت عن استشهاد 50 مجاهدا وجرح ما لا يقل عن 150 آخرين.
^ معركة الدغامشة: كانت امتدادا لمعركة لفقيقيرة ودافعا للقصور المجاورة لمنطقة عين صالح (أقبلي ـ تيط ـ أولف ـ إينغر) لتعبئة السكان من أجل التار لشهداء معركة لفقيقيرة، حيث تجمع المجاهدون بمنطقة إينغر التي تبعد عن عين صالح بحوالي 65كلم وبدأ المقاومون زحفهم بقيادة الرقاني مولاي عبد الله بن العباس يوم 04 جانفي 1900م، بقوات قدرت بأكثر من ألف مجاهد تمركزوا بقرية البركة التي يبعد عن عين صالح حوالي 05 كلم من الجهة الغربية. وحين بدأ المجاهدون تقدهم نحو مدينة عين صالح اشتبكوا مع العدو الفرنسي في قرية الدغامشة في معركة إستمرت يوما كاملا استشهد خلالها 150 مقاوما وجرح حوالي 200 آخرين.
^معركة واد تيت: وصلت الحملة إلى واد تيت 40 كلم عن تمنراست مساءا والتي كان الطوارق يترصدون تحركاتها منذ خروجها من مدينة تامنغست وعند المكان المسمى تينيسا دخل المقاومون في معركة غير متكافئة لا في العدة ولا في العتاد مع جنود حملة كوتنيس في07 ماي 1902م، وكانت حصيلتها استشهاد ما يزيد عن 30 مجاهدا من قبيلة دق غالي.
بعد هذه المعركة أصبحت منطقة الهقار هي الأخرى تحت نفوذ الفرنسيين وتوقفت جميع مظاهر ردود الأفعال ضد الفرنسيين في الصحراء إلى غاية اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث أضلعت الحركة السنوسية بحمل راية الجهاد المقدس الذي أعلنته في كامل إفريقيا الشمالية والغربية إنطلاقا من مناطق طرابلس وفزان الليبيتين، وبعد المعارك العديدة التي خاضتها في منطقة أزجر انطلاقا من سنة 1915م كلفت الحركة الضابط كاوسن بمهمة الإستيلاء على الأسلحة التي كان الأب شارل دوفوكو يخبئها في البرج الذي بناه في مدينة تامنغست.
^ثورة الهقار 1916: لعبت الحركة السنوسية الدور الأكبر في إشعال فتيل هذه الثورة ضد الفرنسيين من خلال شخصية السلطان الشيخ أمود، وكان من أهم معارك هذه الثورة معركة إلمان، ومن تداعيات هذه الثورة تمكن جنود الضابط كاوسن من قتل الراهب شارل دوفوكو الذي كان على اتصال مع قوات الاحتلال والاستيلاء على الأسلحة المخبأة عنده.
وفي الوقت الذي شهدت فيه الثورة انطلاقتها ونجاحاتها المدوية التي أصبحت تصل إلى جميع أطراف المعمورة في ذلك الوقت، بدأت قيادة الثورة تخطط في كيفية إيصال العمل الثوري إلى أبعد نقطة، حيث قامت بتنصيب خلايا ثورية في منطقة الهقار والتديكلت.
——