باحثون وأكاديميون يناقشون إمكانية المساءلة الجذرية

المنجز النقدي.. بحثا عن مدرسة جزائرية

فاطمة الوحش

 مساءلة التجارب  وتبادل الــرؤى وصياغة أسئلة جديدة

احتضنت كلية الآداب واللغات بجامعة الجزائر، ممثلة في قسم اللغة والأدب العربي ومخبر التأويل وتحليل الخطاب، أشغال ملتقى وطني بعنوان «المنجز النقدي الجزائري وتعليمياته نحو إمكانية المساءلة الجذرية». وجمع اللقاء ثلة من الأساتذة والباحثين من مختلف الجامعات الجزائرية، لمناقشة أسئلة عميقة تتصل بمسار النقد الأدبي في الجزائر، واستجلاء ملامح تشكّل مدرسة نقدية جزائرية لها جذورها وخصوصيتها.

أوضح رئيس الملتقى الدكتور لونيس بن علي، أن فكرة تنظيم الملتقى انطلقت من الرغبة في فتح نقاش أكاديمي جاد حول النقد في الجزائر، إشكالاته وأسئلته ومرجعياته. وأكد أن الحديث الدائر حول هذا الموضوع ظل في كثير من الأحيان محكوما بالانطباعية والمزاجية، وانزلق أحيانا إلى سجالات شخصية أبعدته عن مساره المعرفي. ومن هنا جاء الملتقى ليعيد النقاش إلى أرضيته العلمية الرصينة، عبر المداخلات التي يقدمها الباحثون بما يتيح مساءلة التجارب وتبادل الرؤى وصياغة أسئلة جديدة تجعل من هذه التظاهرة محطة أساسية في مسار مأسسة الحوار النقدي بالجزائر.

الاستعمار المرجعي واقصاء الذاكرة

قدّمت الدكتورة آمنة بلعلى مداخلة موسومة بـ»تحرير النقد الجزائري من المرجعيات المستعارة»، حاولت من خلالها مساءلة النظام المعرفي الذي اشتغل في إطاره النقاد الجزائريون منذ عقود، مشيرة إلى أنّ هذا النظام قام ـ في معظمه ـ على مرجعيات وافدة حالت دون بلورة نقد أصيل يعكس أسئلتنا الخاصة.
وأوضحت أنّ هذه المهمّة صعبة ومعقّدة، وتحتاج إلى جهد جماعي وفريق عمل متكامل، لأنّ الإشكال يتجاوز مجرد اعتماد مناهج أجنبية، ليشمل البنية الفكرية التي حكمت مسار النقد في الجزائر.
وبيّنت بلعلى، أنّ الارتهان لهذه المرجعيات المستعارة جعل الجزائريين يصدرون أحكاما قاسية على نقدهم، فيصفونه بالمأزوم أو التابع، وينكرون وجود مدرسة نقدية جزائرية، خلافًا لشعوب عربية أخرى تفخر بمدارسها النقدية. واعتبرت أنّ هذه النظرة السلبية ليست إلا انعكاسا للهيمنة التي مارستها النماذج الوافدة على رؤيتنا لذواتنا وثقافتنا.
كما لفتت، إلى أنّ المجال التداولي الذي تشكّل فيه النقد الجزائري، قديما وحديثا، كان فضاءً مفتوحا أمام هذه المرجعيات، حتى بلغ الأمر إقصاء رموزنا ومصادرنا الفكرية. فقد تمّ في مرحلة ما إنكار انتماء شخصيات بارزة مثل القديس أوغسطين وأبوليوس إلى الثقافة الجزائرية، وتُرك مفكرون وأدباء كبار مثل عبد الكريم المهشري الذي هو استاذ ابن رشيق والزاهري ومحمد أركون وغيره من أعلام الأدب والنقد يُنسبون إلى بلدان أخرى، دون أن نمارس أي فعل دفاعي يحفظ ذاكرتنا. واعتبرت بلعلى أنّ هذا الاستئصال الخفي ساهم في تهميش رموزنا بدل استثمارها في بناء معرفة جزائرية أصيلة.
وأضافت، أنّ هذا التغييب تسلّل أيضا إلى مجال الأدب والنقد، إذ كان الاشتغال على الأدب الجزائري في ثمانينيات القرن الماضي يُنظر إليه باعتباره رجعية وتخلّفا، مما أدى إلى إقصائه شبه الكلي من دوائر البحث العلمي، وفتح المجال واسعًا أمام النماذج المستعارة لتتغلغل في الجامعة والمشهد النقدي الجزائري. والأدهى ـ حسبها ـ أنّ هذه النماذج قدمت نفسها تحت غطاء الحداثة والتحديث والقطيعة مع التراث، فبدت كأنها سبيل للخروج من التقليد، بينما كانت في حقيقتها تحمل أنساقا مضمرة لمشروع الهيمنة.
وتوقفت آمنة بلعلى عند الصراع الإيديولوجي الذي طبع تلك المرحلة، بين دعاة الحداثة الذين نادوا بقطيعة شاملة مع الماضي والتاريخ وكل ما هو جزائري، وبين من تمسكوا بالتراث المشرقي ورفضوا كل جديد. هذا الصراع الشكلي ـ كما وصفت ـ صرف الانتباه عن جوهر القضية: ضرورة احتضان ثقافتنا وبناء نقدنا على أسئلتنا الذاتية.
كما أكدت المتدخلة، أنّ الأدب والنقد لم يكونا بمعزل عن مشروع الهيمنة الاستعمارية، بل استُخدما كأدوات أساسية فيه، سواء من خلال طرائق التمثيل التي فرضها الاستعمار، أو عبر المناهج النقدية الغربية التي اعتقدنا أنها تمنحنا الأكاديمية والموضوعية، بينما كانت في العمق جزءا من آليات السيطرة. وذكرت أنّ اعتراف الغربيين أنفسهم بأنّ الحداثة لم تكن مشروعا تنويريا خالصا، بل كانت أيضا غطاء لتبرير الاستعمار، يكشف عن عمق هذه الإشكالية.
واختتمت الدكتورة آمنة بلعلى مداخلتها بالتشديد على أنّ النقد الجزائري، منذ الاستقلال، نشأ في ظل هذه المرجعيات المستعارة، وأنّ التحدي اليوم هو تحرير النقد الجزائري من هذه التبعية، واستعادة رموزه ومصادره وذاكرته، بما يمكّنه من أن يكون نقدا أصيلا قادرا على الإضافة للمعرفة الإنسانية.

جذور المدرسة النقدية الجزائرية

من جهته، انطلق الدكتور اليامين بن تومي في مداخلته من طرح سؤال جوهري: هل عرفت الجزائر مدرسة نقدية إذا ما وُضعت باعتبارها واقعا حيا في التاريخ وتكلّمت داخل هذا التاريخ؟ وللإجابة عن هذا السؤال، عاد إلى ما كُتب في التاريخ ليؤكد أن المدونات كانت ثرية وغنية، وأن المنجز النقدي ارتبط بمسألتين محوريتين هما: السلطان والسلطة السياسية، لأن القيمة في التاريخ كانت تمنحها الإمارة، التي عضّدتها الرؤية الفقهية. فالبيئات المغاربية ركّزت على مسألة السلطان، وكان الأدباء والفقهاء ألسنته المعبرة.
ورأى بن تومي، أن أصول المدرسة الجزائرية يمكن تتبعها في فترات تاريخية مبكرة، حيث برز أول فعل كلامي في تاريخ الإنسان من خلال الأبولوجيا (فن المرافعة والدفاع عن الذات). وإذا كانت الأبولوجيا هي المؤسس الأول للجنس الأدبي، فإن العلاقة بين البيئة السلطانية ونشأة الأجناس الأدبية تصبح واضحة. وهنا يربط المتدخل هذا المفهوم بما سماه ابن خلدون العمران السياسي، ليبين أن الجزائر عرفت أشكال أدبية ارتبطت به: أولها الأبولوجيا، أي الدفاع عن الهوية والشخصية الإفريقية الجزائرية.
واستشهد بن تومي بنص أبوليوس الذي أعلن عن إفريقيته في نصه الشهير «الحمار الذهبي». فاختيار الحمار ـ لا الحصان ـ لم يكن اعتباطيا، بل لأنه رمز لعبادة إفريقية قديمة، ولأنه جسّد وضع الإفريقي كمواطن من الدرجة الثانية في القانون الروماني، تماما كما اعتُبر الجزائري «أنديجان» في القانون الفرنسي الاستعماري. وهكذا يصبح النص تعبيرا عن المسخ والتشويه الذي تعرض له الإنسان الإفريقي من قبل الإمبراطوريات. وأضاف، أن الحمار الذهبي لم يُكتب باللاتينية الفصيحة، وإنما بلغة شعبية هجينة بين الإفريقية واللاتينية، وهو ما يشبه وضع الجزائري الذي استعمل الفرنسية لكن حوّلها إلى لغة ثالثة مقاومة للسلطة الاستعمارية. ومن ثَمّ، فإنّ الأبولوجيا كانت منطلقا لتأسيس هوية سردية إفريقية/جزائرية يمكن عدّها إحدى اللبنات الأولى لفكرة المدرسة النقدية الجزائرية.
ثم تطرق اليامين بن تومي، إلى مفهوم آخر اعتبره أساسيا في بناء هذه المدرسة، وهو التضامن الأخلاقي، الذي أشار إليه محمد أركون في إطار الثقافة المتوسطية، معتبرا أن الجزائري أقرب في تكوينه إلى الإنسان المتوسطي. هذا المبدأ يمكن تتبعه في نصوص كبرى مثل السيرة الهلالية، التي تحمل إشارات عميقة خاصة في جزئها الرابع المتعلق بشمال إفريقيا. وقد اعتبرها بن تومي نصا مؤسسا يعكس مبدأ الالتئام داخل القبيلة العربية المهاجرة، ويعيد ترتيب السلطان السياسي في شمال إفريقيا. وهنا استشهد بمقولة ابن عربي الشهيرة: «المكان الذي لا يؤنث لا يعول عليه»، مبرزا الدور الذي لعبته شخصية الجازية في إعادة تشكيل الرؤية السلطانية في الفضاء المغاربي.
كما أشار إلى أنّ هذه النصوص ـكـالحمار الذهبي والسيرة الهلالية ـ يمكن عدّها نصوص طفرة، أي نصوص مفصلية توجه الثقافة نحو مركزيات جديدة، وبالتالي فهي تمثل مرتكزات أساسية لبناء تصور المدرسة النقدية في التاريخ الجزائري.
وانتقل بعد ذلك إلى مسألة الحرية وصناعة البطل، مبينا أن الدراسات الأدبية الجزائرية في ستينيات القرن الماضي ركّزت على الشعر، لأنه كان الأقدر على صناعة البطولة وتجسيد النضال، بينما السرد ظل مغيبا. فالشعر، كما يقول أرسطو في فن الشعر، يصنع النبلاء ويرتقي بالإنسان إلى مرتبة الكفاح، في حين أن السرد يتيح المجال للأصوات المهمشة لتتكلم. ومع تحوّل الجزائر في السبعينيات إلى فضاء مديني جديد، برزت الحاجة إلى السرد الذي يعكس التعدد والتراكم والزخم الإبداعي.
وختم الدكتور اليامين بن تومي مداخلته بالتأكيد على أن الممارسة النقدية الجزائرية ليست غائبة ولا تابعة بشكل مطلق، بل لها جذور عميقة تمتد من الأبولوجيا إلى نصوص البطولة والتضامن، ومن الشعر إلى السرد، مما يفتح المجال للقول بإمكان وجود مدرسة نقدية جزائرية، إذا ما أُعيد استثمار هذه المرجعيات التاريخية والفكرية في مشروع نقدي معاصر.

النقد الثقافي كأفق جديد

بدوره، تناول الباحث عدنان فضيل في مداخلته إشكالية التحول في النقد الجزائري، مبرزا حدود انفتاحه على النقد الثقافي، الذي أصبح اليوم مطلبا منهجيا قبل أن يكون مجرد حاجة فنية أو معرفية. وأوضح أنّ الساحة النقدية الجزائرية لم تعرف تصريحا مباشرا بتبني هذا التوجه، غير أن الممارسة النقدية أظهرت بجلاء لجوء كثير من النقاد إلى الاستعانة بمداخل وإجراءات تنتمي إلى النقد الثقافي، سواء على نحو كلي أو جزئي. وأشار المتحدث، إلى أنّ الاهتمام الأكاديمي بهذا التوجه يتوسع تدريجيًا، إذ يقترح العديد من الباحثين مواضيع ذات صلة بالنقد الثقافي، مستلهمين أطروحات مفكرين بارزين كإدوارد سعيد وغياثري سبيفاك وغيرهما.
كما لفت عدنان فضيل، إلى أنّ هناك محاولات جادة لتأصيل هذا المنحى في الجزائر، من بينها ما قدّمه طارق بوحالة تنظيرا في كتابه «أسس النقد الثقافي وتطبيقاته في النقد العربي المعاصر»، إضافة إلى تجربة اليامين بن تومي التي انفتحت على البعد الثقافي ـ الاجتماعي في كتابه «المجتمع وصناعة الفراغ»، وكذا تجربة بن علي لونيس التي قاربت النصوص الأدبية من منظور النقد الثقافي.
وبيّن الباحث، أنّ هذه الممارسات يمكن تقسيمها إلى ثلاثة محاور: محاولة التعريف والتنظير، التركيز على المجتمع وأمراض الثقافة، ثم إعادة تعريف النص الأدبي وتفجير حدوده المفاهيمية. وختم بالقول إن التجربة الجزائرية ما تزال غير مؤسسة لمشروع نقدي مكتمل، لكنها تحمل بوادر تحوّل حقيقي، قد يعيد رسم ملامح التفكير النقدي في الجزائر.

عبد القادر علولة ومسرح النقد الاجتماعي

من جهة أخرى، توقف الباحث الهادي بوذيب في مداخلته عند تجربة المسرحي الجزائري الكبير عبد القادر علولة، معتبرا إياها واحدة من أبرز التجارب في المسرح الجزائري الحديث، لما تحمله من وعي نقدي وجمالي يتجاوز حدود الفرجة إلى عمق الأسئلة الاجتماعية والسياسية والثقافية. وأوضح أن علولة، الذي جمع بين الكتابة والإخراج والتحليل، جعل من الخشبة فضاءً للحوار مع الواقع، فارتبطت أعماله بالإنسان الجزائري في معاناته وتطلعاته، وبالمجتمع في تناقضاته وصراعاته.
وأشار بوذيب إلى أن مسرح علولة اتسم بكونه مزدوج الوظيفة: تعليميا من جهة، حيث عمل على تنبيه الوعي الجماعي إلى قضاياه الملحّة، وجماليا من جهة أخرى، بما انطوى عليه من أبعاد فنية راقية، وهو ما يمنحه فرادته داخل التجربة المسرحية الجزائرية. كما لفت إلى أنّ علولة انطلق من رؤية تعتبر المسرح أداة نقدية وفاعلة في تفكيك البنى الطبقية والاجتماعية، وفي صياغة مشروع للتغيير والتقدم.
ومن الناحية المفاهيمية، أبرز المتدخل أن المسرح عند علولة يتجاوز كونه مجرد عرض احتفالي للتسلية، ليصبح خطابا رمزيًا عميقا يترجم رؤية الفرد والجماعة للعالم، ويستعيد إرث المسرح الإنساني منذ أرسطو مع منح التجربة الجزائرية خصوصيتها المميزة. وختم بوذيب بالتأكيد على أنّ إعادة قراءة تجربة علولة اليوم ضرورة لفهم تحولات المجتمع الجزائري ما بعد الاستقلال، واستلهام القيم الأنثروبولوجية والجمالية التي كرّسها هذا المسرحي الرائد.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19885

العدد 19885

الخميس 25 سبتمبر 2025
العدد 19884

العدد 19884

الأربعاء 24 سبتمبر 2025
العدد 19883

العدد 19883

الثلاثاء 23 سبتمبر 2025
العدد 19882

العدد 19882

الإثنين 22 سبتمبر 2025