بورايو يقرأ قصائد النصـر في الذاكـرة الشعبيـة

هكذا استقبل الجزائريون يــوم الاستقلال..

أسامة.إ

نشر البروفيسور عبد الحميد بورايو مداخلة بمناسبة عيد الاستقلال، تطرّق فيها إلى بعض الإنتاجات الفنية الشعرية والغنائية المتعلقة بالاستقلال. واختار بورايو نماذج من الشعر الشعبي عبّرت عن لحظة النصر، وهي: أغنية “الحمد لله ما بقاش الاستعمار في بلادنا” التي غناها الحاج محمد العنقاء، وأغنية “سبعة سنين” من نظم وأداء الشيخ بورقعة، وأهزوجة “جانَا عيد على عيد” للشاعرة فاطمة منصوري، وقصيدة “جزاير مبروك عليك” للشاعر هادي جاب الله.

تحت عنوان “التعبير عن لحظة الانتصار في نماذج من الشعر الشعبي”، نشر البروفيسور عبد الحميد بورايو مداخلة تطرق فيها إلى بعض الإنتاجات الفنية الشعرية والغنائية المتعلقة بالاستقلال.
ويهدف بورايو بمداخلته إلى التعليق على نماذج من الشعر الشعبي عبّرت عن لحظة النصر التي عاشتها الجماعة الجزائرية. وتتمثل هذه النماذج في قصائد ومقطوعات شعرية تم نظمها والتغنّي بها أثناء الاحتفال بعيد الاستقلال؛ وهي: أغنية “الحمد لله ما بقاش الاستعمار في بلادنا” (غناء محمد العنقاء)، أغنية “سبعة سنين” من نظم وأداء الشيخ بورقعة، أهزوجة “جانَا عيد على عيد” للشاعرة فاطمة منصوري، قصيدة “جزاير مبروك عليك” للشاعر هادي جاب الله.
وفي مستهل مساهمته، قال بورايو إن لحظة إعلان انتصار الاستقلال في الجزائر، إثر الاستفتاء الشعبي، تُعتبر لحظة استثنائية في حياة المجتمع الجزائري، فقد كانت مصحوبة بانفعال ذي طبيعة جمعية، عبّر عن نفسه من خلال حركة الجسد، والتوجه الجماعي نحو الشوارع للتظاهر والتعبير عن لحظة النصر بمختلف الأفعال والنداءات ورفع الأعلام والزغاريد والرقص والغناء، وهي جميعًا سلوكات تندرج في نطاق ممارسة ثقافية، كانت بمثابة العدوى المنتشرة على نطاق واسع. فالأفكار والتمثلات الثقافية انتشرت في مختلف الأوساط الشعبية، وتجلّت في مجموعة من التصرفات رافقت مختلف مظاهر الاحتفالات الجمعية بعيد النصر.
وأضاف بورايو بأن هذه الحالة تحتاج إلى دراسة من جوانب عدّة، منها ما تتناوله المداخلة من مجموعة تعبيرات شعرية وغنائية تمثّل نماذج من التجسيدات التعبيرية خلّدتها التسجيلات الصوتية والتدوينات الكتابية، مع التركيز على تعيين أساليب التعبير عن الانفعالات الجمعية والتعليق عليها ووصف تشكّل المعاني وتراتبيتها.

”الحمد للـه ما ابقاش الاستعمار في بلادنــا”

وتطرق بورايو إلى النموذج الأول، أغنية “الحمد لله ما بقاش الاستعمار في بلادنا” (غناء الحاج محمد العنقاء (1907-1978)، وهي أغنية مشهورة ما زالت تُردَّد إلى اليوم، في مناسبات الاحتفال بذكرى الاستقلال والثورة، غنّاها عميد الغناء الشعبي العاصمي محمد العنقاء، وكثيرا ما كان بثها يصاحب عرض الوثائق التصويرية والصوتية لمظاهر الاحتفال بعيد النصر في مدينة الجزائر خاصة. تبدأ بالبسملة ثم بتذكّر سنوات الكفاح ضد الاستعمار، وما أنجزه المجاهدون وجيش التحرير، والترحم على الشهداء، والدعاء لهم بالانتقال إلى الجنة. وكذلك الدعاء بالرحمة للأجيال الصاعدة والتربية المثلى والتآخي وحياة التسامح عملا بما جاء في القرآن. ينتقل الشاعر بعد ذلك إلى طلب الاجتهاد في اكتساب العلم، وهو طلب موجّه إلى الأجيال الجديدة، يتلو ذلك مجموعة من الجمل الخبرية التي تتحدّث عن حمل “الراية الجزائرية” من طرف الشباب وما ترمز له رسوماتها المجسّدة للهوية الوطنية، ثم ينتقل إلى الحديث عن الدعم الذي لاقته الثورة من قِبَل الشعوب العربية الشقيقة. وتنتهي القصيدة بالدعوة إلى العمل الوحدوي وتجاوز الصعاب والدعاء بالنجاح للدولة الوطنية الوليدة وتمكّن قادتها من تسييرها وتنظيمها.
«هكذا تجمع القصيدة بين الأسلوبين الإنشائي والخبري، بلغة هي أقرب إلى الخطاب المباشر، الذي يستعمل لغة التواصل اليومي. لقد علت لغة الأسلوب الإنشائي على الجانب الخبري، ما يمكن أن يُؤوّل على أنه تأكيد على ضرورة العناية بصنع المستقبل. فلحظة الانتصار هي في نفس الوقت لحظة تشوّف نحو ما يخبّئه المستقبل”، يقول بورايو.

”سبعـة سنـين” و”قداش عانــت الجزاير”

النموذج الثاني هو أغنيتا “سبعة سنين” و«قدّاش عانت الجزاير”؛ من نظم وأداء الشيخ بورقعة (1903-1991). ويقول بورايو إن الشاعر مساعديّة أحمد بن محمد كان من المغنّين المؤدّين في الطابع الغنائي البدوي لمنطقة الأوراس الشرقي، وكانت له شهرة واسعة في منطقتي شمال شرق الجزائر وشمال غرب الجمهورية التونسية. ينظم أشعاره ويغنّيها في المناسبات الاجتماعية. تغنّى بدوره بلحظة النصر وخلّدها من خلال نصّين موثّقين في ديوانه؛ أحدهما بعنوان “سبعة سنين”، والثاني بعنوان “قدّاش عانت الجزاير”. في النص الأول، تسجيل غنائي لعواطف فردية انتابت الشاعر، تصوّر انفعالين متناوبين؛ أحدهما يُخبر عن مأساة الماضي، لينقضها ويعارضها بحالة الرضى والأمل التي يعيشها في الحاضر، في لحظة الشعور بالنصر والتعبير عنها بأبيات شعرية تزاوج بين الدلالة على المأساة التي عاشتها الجماعة في الماضي، والتعبير عن انفراج الأزمة وسطوع نجم الأمل في حاضر هذه الجماعة. يستعمل أسلوبًا مجازيًا فيلجأ إلى مشاهد من مظاهر الطبيعة للتعبير عن هذا التناقض بين الماضي والحاضر، كما يستعين بالمقارنة بين حالتي المرض والشفاء اللتين يتعاوران الجسد البشري، ويجسّد التجاوز والانتقال من حال إلى حال عن طريق المفاضلة بين الجديد والبالي وبين التصالح والخصام.
أما القصيدة الثانية فيبدأها بالحديث في بضعة أبيات عن الوطن وهو ينتقل من حالة الاستعمار إلى وضعيّة الاستقلال، من وضعه كملكيّة للمغتصِب ثم استعادته من قِبَل أهله الشرعيين. ويشير في بيت إلى شخص الحاكم الجديد بعد هذه الاستعادة. ويعود بالمتلقي إلى الماضي ليصف معارك حربية أدّت إلى لحظة الانتصار، فيذكر مواقع المعارك مع العدو وما تحقق فيها من انتصارات وكذلك سياقاتها العيانية وحركية أحداثها. في هذه القصيدة تعيين للأماكن وللشخصيات الفاعلة في الصراع الدائر مع الاستعمار في المنطقة التي ينتمي إليها الشاعر، ووصف للأحداث ولنتائجها؛ إنه التاريخ المحلي للثورة التي أوصلت إلى لحظة الانتصار.

..ولـوادي سـوف  قصائدها وأهازيجــها

ثم يتطرق بورايو إلى أهزوجة “جانَا عيد على عيد” للشاعرة فاطمة منصوري (1910-1984). وفي ديوان شاعرة الثورة التحريرية في وادي سوف، نعثر على أهزوجة شعرية تمثّل نموذجًا للتواصل مع التراث في التعبير عن الحاضر المتمثّل في لحظة الانتصار. تتغنّى الشاعرة بهذه اللحظة من خلال إيقاعات وأسلوب شعري موروث متجسّد في التراث النسوي لمنطقة وادي سوف بلغته وصوره الشعرية وإيقاعاته.
تحتفي الشاعرة بذكر زعماء الثورة والثناء عليهم وتتمنّى لقياهم، كما تشيد بمن شارك الجزائريين فرحتهم بالاستقلال في مدن البلاد العربية. وتُذكّر الشاعرة بدور الخونة في تأخير مجيء لحظة الاستقلال، كما تتغنّى بمشاعر الحب والإخاء بين أفراد المجتمع الجزائري، وتنهي قصيدتها بذكرى الشهداء الذين ضحّوا بحياتهم لكي يعيش الناس لحظة النصر. تطغى على القصيدة طرق التعبير المستمدّة من التقاليد الموروثة ومن التصوّرات المستمدّة من المعتقد الديني.
كما يتطرق الباحث إلى قصيدتيْ “شاع الخبر اليوم في بلدتنا” و«جزاير مبروك عليك” للشاعر الهادي جاب الله (1882-1978). ويقول بورايو إن الشاعر الهادي جاب الله (من وادي سوف) خلّد المناسبة بهاتين القصيدتين. في القصيدة الثانية، ينتقل الشاعر من التهنئة بالنتيجة المتمثلة في النصر وإنشاء الدولة الوطنية إلى الحديث عن الذات الجمعية الفاعلة، والتي ضحّت من أجل بلوغ هذا الانتصار، يستعرض الماضي الاستعماري البغيض وما عاناه الشعب، ويقارن بين معاناة الماضي وفرحة اليوم، يذكر معارك حدثت في منطقته، فيسمّي مواضعها، كما يشير إلى عمليات الإبادة الجماعية في حوادث ماي 1945 بسطيف وخراطة. يوجّه الخطاب إلى فرنسا فيهجوها بأقبح الصفات ويذكّرها بما أصابها زمن انهزامها أمام النازية الألمانية. كما يستعرض مراحل المقاومة في القرن التاسع عشر، فيذكر زعماءها ويثني على بطولاتهم، ويربطها ببطولات زعماء الثورة التحريرية ويسمّي من استشهد منهم مثل بن مهيدي وبن بولعيد وعميروش وسي الحواس. تقدّم القصيدة نظرة شاملة للحركات الثورية التي عرفتها الجزائر، والتي مهّدت لثورة التحرير الكبرى.
ويخلص بورايو قائلا: “إنه خطاب يلامس التاريخ، لكنه يعبّر عن روح ملحمية نمت في المجتمع في مختلف حقب المرحلة الاستعمارية، لتُتوَّج بتحقيق حرية المواطن من قيود الاستعمار. يغلب على القصيدة الأسلوب الإنشائي الذي كثيرًا ما يستعين بالسخرية لتصوير الخصم، وتطغى عليه النظرة العالِمة المتميزة بالشمول والمتشبّعة بالأفكار النابعة من الرؤية الإصلاحية”.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19818

العدد 19818

الأربعاء 09 جويلية 2025
العدد 19817

العدد 19817

الثلاثاء 08 جويلية 2025
العدد 19816

العدد 19816

الإثنين 07 جويلية 2025
العدد 19815

العدد 19815

الأحد 06 جويلية 2025