يعتبر “أزوان” أحد أبرز المكوّنات الثقافية والاجتماعية في مجتمع بني حسّان، فهو يمثّل نظاماً ثقافياً متكاملاً تنعكس من خلاله رؤية البيظان للعالم، فأزوان يتجاوز المفهوم السطحي التقليدي للموسيقى، بل هو فنٌ يُعيد إنتاج القيم والمعاني التي تحفظ توازن المجتمع، وهو كذلك تعبير فنّي يحمل في طيّاته أبعاداً تاريخية، معرفية، واجتماعية تعكس نمط عيش الصحراوي وتفاعله مع بيئته القاسية، حيث تتحوّل الموسيقى إلى وسيلة لمقاومة العزلة وتوثيق اللحظة، بل وتوجيه السلوك الجمعي.
ترى أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة وهران، الدكتورة مباركة بلحسن، أنّ أهمية “أزوان” لدى البيظان ترجع إلى ارتباطه بنمط عيشهم، وتلبيته لحاجيات متعدّدة تفرضها البيئة الصحراوية القاسية، وهو ما جعل الشعر والموسيقى لديهم من بين أهم الموروثات الثقافية التي تؤسّس وترسّخ القيم الاجتماعية وتنقلها من جيل لآخر، وارتباط رفعة الشخص ومكانته الاجتماعية العالية بعلو كعبه في المعارف الموسيقية.
فأزوان - حسب أستاذة الأنتربولوجيا - جاء نتيجة لثقافة أثبتت أنها على درجة عالية من الأصالة، وهو ما يمكن تسجيله من خلال تصوّر البيظان للحفل الموسيقي وسلوكهم خلال الأداء الموسيقي، وما يميّز الممارسة الشعرية في مجتمع البيظان هو الترابط بين الشعر الحساني (لغنَ) والموسيقى (أزوان)، ومرافقتهما للحياة اليومية للقبائل الحسّانية، كما أنها تتميز بتخصيص زُمرة اجتماعية خاصة تدعى “إكاون”، وظيفتها الإنشاد والغناء وكتابة الشعر وتدوين الأمجاد، والبوح بمشاعر الحب، لأنهم الفئة الوحيدة المخوّل لها خرق الطابوهات في مجتمع تقليدي يطبعه الاحتشام والحياء، وقدرة المغني على التعبئة، وهو ما جعلهم يصبون إلى الاستفادة من المغنين كأداة للسلطة والتنظيم الاجتماعي والإمتاع بعد أن أثبتوا جدارتهم.
وتابعت بلحسن قائلةً إنّ “البيظان لا يفضّلون الخطاب المباشر في التعبير عن مشاعرهم، بل يميلون عادةً إلى التواصل عن طريق لغة جسدية يصعب فك رموزها وفهمها، فالمجتمعات التقليدية، بشكل عام، تبدع في إنتاج الرموز، وهي في الوقت ذاته، تمثّل عنصراً مهمّاً في تشكيل وإعادة تشكيل هويتهم الثقافية”.
وأضافت أنّ عملية الترميز التي نسجّلها في الطقوس الموسيقية، وما يرافقها من تفاعل الحضور، إما بـ “التنهويل” أو التصفيق أو الرقص، تدخل في النمط الثاني من الرموز ذات المضمون الخاص بثقافة مجتمع البيظان، وقد يكون لنفس الرمز أكثر من مضمون خاص وأكثر من وظيفة، والرموز هنا هي لغة خاصة، ولها علاقة بالطقوس الاجتماعية الخاصة بكل مجموعة.
واعتبرت المتحدّثة أن نجاح الإيحاءات في التعبير عن مشاعر الراقص أو الراقصة في مجتمع البيظان، مرهونٌ بمدى احترامها لطقوس الرقص ورموزه الأساسية، لأنه لا يمكن فهم الرمز وتأويله وتقبّله من طرف المتلقي إلا ضمن البيئة الاجتماعية والثقافية التي أنتجته، وهو ما يجعله مشحوناً بالدلالات والمعاني التي لا تتبع الأسطر المستقيمة دوماً، حسب تعبيرها.
وأردفت قائلةً “إنّ طقوس الرقص تُمارس داخل المجموعة الواحدة، وبنسبة كبيرة من حركاتها ولواحقها من سلوك ثيابي وألوان وموسيقى، فإنّ الراقص لا يحتاج إلى كلمات للتعبير عن مشاعره، بل يكفي أن يتقن لغة الجسد ويحترم طقوس الرقص ومدى تناغمها مع الموسيقى”.
وأشارت الدكتورة بلحسن إلى أنّ أسباب انتشار أزوان بين مختلف الفئات الاجتماعية لدى البيظان، يرجع إلى ظروف إنتاجه وصناعته، وإلى تنوّع أغراضه، فالموسيقى عنصر ثقافي رافق الإنسان لمواجهة قساوة الطبيعة الصحراوية والفراغ الذي تفرضه هذه البيئة، ولتلبية حاجيات الأفراد النفسية والاجتماعية، وأضافت أنّ “الأشوار” التقليدية عبّرت عن كل الأوضاع التي قد يواجهها الفرد الصحراوي، ومنبع خصوصية موسيقى البيظان هو جذورها التقليدية واحترامها للخصوصية الثقافية للبيظان، كاستخدام الإيحاءات واللغة غير المباشرة للتعبير عن مواضيع مختلفة.
لون متفرّد في مجتمع البيظان
ويعتبر “أزوان” لوناً متفرّداً في مجتمع البيظان وفي ثقافة بني حسّان، بحكم ترابطه العضوي بينه وبين الشعر الحسّاني الذي يُسمى “لغْنَ”، وهو ما يُبرز التجربة الفنية الفريدة للبيظان التي لا تنفصل عن الحياة اليومية لهم، كما يتميّز أزوان بكونه لوناً فنياً بقي حكراً على فئة اجتماعية متخصّصة تسمى “إيكاون”، والذين تفرّدوا بدور محوري في الحفاظ على هذا اللون الغنائي الراقص، وتوثيق البطولات، وتعبئة الجماهير عبر خطاب غير مباشر ينأى بصاحبه عن المواجهة المباشرة، ويفضّل أسلوب الإيحاء والترميز عن الكلمات المباشرة كآلية للتعبير، خصوصاً في مجتمع البيظان المحافظ الذي يغلب عليه طابع الحياء.
ويحظى “أزوان” بمكانة خاصة في مجتمع البيظان، من خلال الطقوس التي ترافق الأداء الموسيقي كالرقص والتصفيق وحركات الأيدي، حيث تتحوّل الرقصة إلى رسائل صامتة لا يمكن فهمها إلا ضمن السياق الزماني والمكاني الذي ينتمي إليه المشاركون، حيث يتطلّب تفكيك هذه الرموز دراية واسعة ومعرفة كبيرة بأدوات التشفير والحركات والإشارات، ما يجعل من الرقصة تجربة تتجاوز التسلية نحو تعبير فني مشحون بالدلالات والمعاني.
ورغم صعوبة تفكيك رموزه في غالب الأحيان، إلا أن “أزوان” يمثّل أداةً راقية للتعبير عن قضايا الحب، الجمال، الهوية والانتماء، كما أنه قد يُستغل للنفاذ إلى السلطة الرمزية داخل القبيلة، خاصةً عندما يتم توظيفه لأغراض سياسية أو اجتماعية ضيقة، وبالتالي، فإنّ فهم “أزوان” يتطلّب معرفة دقيقة بلغة الجسد، معرفة تأخذ بعين الاعتبار البُعد الأنثروبولوجي والتاريخي والجمالي لهذا الفن، الذي يُعدُّ من أعرق الموروثات الحيّة في ثقافة البيظان.