تدوين الموروث الحساني وتصنيفه..ضروري

الثّقافة الحسانية..عمق إنساني إفريقي مشترك

فاطمة الوحش

 في إطار تظاهرة “الجزائر عاصمة الثّقافة الحسانية”، احتضن قصر الثقافة مفدي زكرياء بالعاصمة على مدار يومين الملتقى الدولي الموسوم “الثقافة الحسانية: هويّة وعمق إفريقي مشترك”، بمشاركة باحثين وأكاديميين من الجزائر، موريتانيا، والجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية. وقد ناقش المشاركون أبعاد الثقافة الحسانية، بوصفها مرآة لخصوصيات محلية، ومجالا لتلاق حضاري إفريقي عميق، ضمن مداخلات علمية تنوّعت بين التاريخ والأدب والأنثروبولوجيا والفنون واللغة والسينما.

 جاء هذا الملتقى الدولي ليؤسّس لحوار معرفي متعدد الأصوات حول الثقافة الحسانية، باعتبارها رافدا غنيّا من روافد الهوية في منطقة المغرب العربي وفضاء الساحل والصحراء. وقد سعت الجلسات العلمية إلى مقاربة هذا الإرث المشترك من زوايا متنوّعة، تاريخية وأدبية ولسانية وأنثروبولوجية، بما يعكس تعدد أبعاده وامتداد أثره في الوجدان الجمعي للمجتمعات الناطقة بالحسانية. وشكّلت المداخلات فرصة لتقاطع التجارب الأكاديمية بين الجزائر وموريتانيا والصحراء الغربية، ضمن رؤية تروم تثمين الثقافة المحلية في بعدها الإفريقي الشامل.

الثّقافة الحسانية..الذّاكرة المحلية والبعد الإفريقي

 افتتح الدكتور غالي الزبير، الباحث بالمركز الصحراوي للدراسات والتوثيق “أحمد بابا مسكة” بباريس (الصحراء الغربية)، أشغال الملتقى بمداخلة معنونة بـ “مدخل إلى المعارف العلمية في المجتمعات الناطقة باللهجة الحسانية”، أشار فيها إلى أنّ هذه المجتمعات أنتجت أنماطا معرفية أصيلة، ترتبط بأنماط العيش والتكيف مع بيئة الصحراء، كما دعا إلى إدراجها ضمن اهتمامات البحث العلمي الأكاديمي.
ومن موريتانيا، قدّمت الأستاذة الدكتورة فاطمة محمد محمود عبد الوهاب، من جامعة نواكشوط، مداخلة موسومة بـ “شعر التبراع: تقويض الطابوهات في المجتمع الصحراوي”، تناولت فيها هذا الشكل الشعري النسائي كأداة فنية واجتماعية، مؤكّدة أنّ “التبراع” يمثّل صوتا داخليا خالصا لا يخلو من عمق إنساني وجمالي.
وفي مداخلة بعنوان “الفنون الشعبية وطقوس الانتقال الأساسية”، استعرض الأستاذ حمدي علال الداف، المدير المركزي بوزارة الثقافة للفنون والعادات والتقاليد لجمهورية العربية الصحراوية، الأبعاد الرمزية والاجتماعية لمراحل الحياة الكبرى (الولادة، البلوغ، الزواج، الوفاة). كما تعكسها الطقوس الشعبية الحسّانية، معتبرا أنّ هذه الممارسات هي حوامل لوعي جماعي ومخزون من المعاني المتجدّدة.

مـن التّـراث إلى الإبــداع

 ومن الجزائر، قدّم الدكتور عاشور فني عرضا بحثيا موسوما بـ “الثقافة الحالية في أطلس الشعر الجزائري”، أكّد فيه على الحضور النوعي للشعر الحساني ضمن خريطة الإبداع الشعري الوطني، داعيا إلى تفعيل الجهود من أجل تدوين هذا الموروث، وتصنيفه ضمن التعدد اللغوي والثقافي للجزائر.
أمّا من جامعة وهران 2، تناولت الأستاذة الدكتورة مباركة بلحسن في مداخلته الموسومة بـ “التنوع الثقافي والعيش المشترك: التراث الحساني في غرب الصحراء الإفريقية”، إشكالية التعايش في مجتمعات متعددة الانتماءات الإثنية والثقافية، وأكّدت أنّ التراث الحساني يشكّل إطارًا مشتركًا يضمن التوازن والتفاعل بين المكوّنات الاجتماعية المختلفة في الفضاء الصحراوي. وأوضحت أنّ هذا التراث، بما يحتويه من قيم التسامح والانتماء، يمثّل قاعدة صلبة لبناء نموذج تعايش سلمي يمكن الاستفادة منه في مجتمعات أخرى تعرف نفس التحديات.
وقدّم من جهته، مباركي السعدي، من المركز الجامعي تندوف، مداخلة بعنوان “التراث الثقافي المشترك في غرب إفريقيا: نماذج وأمثلة”، بيّن فيها أن الثقافة الحسانية تتقاطع في مكوناتها مع ثقافات أخرى في إفريقيا الغربية، من خلال الحكايات الشعبية، الأمثال، والمعتقدات الطقسية، مما يبرز أهمية الحوار الثقافي بين الشعوب.
كما تناول الأستاذ الدكتور محمد رضا مغربي، من المركز الجامعي تندوف، في مداخلته “تمثلات أصالة الهوية الحسانية لدى المرأة التندوفية: الملحفة نموذجا”، العلاقة بين الزي التقليدي النسوي وقيم الانتماء والخصوصية، مشيرا إلى أنّ “الملحفة” تمثّل، من خلال لونها وشكلها وطريقة لبسها، شفرة ثقافية تحمل في طيّاتها رموزا للكرامة، الهوية والأنوثة.
وفي مداخلة بعنوان “التّراث المادي والروحي في رواية عيشتو ريم الرقيبات”، سلّط الدكتور عبد الله كروم من جامعة أدرار، الضوء على حضور الرموز الحسانية في الرواية الجزائرية الحديثة، من خلال تحليل بنية السرد والعناصر التراثية المضمنة، مشيرا إلى أنّ التوظيف الفني للموروث يمنحه بعدا معاصرا يعيد إليه الحياة.
كما تطرّق الأستاذ الدكتور زنداني عبد النبي، عميد كلية العلوم الإنسانية والأنثروبولوجية بجامعة تمنراست، في مداخلته “التداخل الثقافي بين التوارق والحسانيين” لنقاط التلاقي بين المكونين الثقافيين، خصوصًا في الفنون واللغة والمعتقدات، معتبرًا أن الجنوب الجزائري يشكل حيزا مثاليا لدراسة هذه التفاعلات الحضارية عبر الزمن.
السينما..أداة لحفظ “الحسانية” وتثمين التّراث
 وشهد اليوم الثاني من الملتقى تنظيم ندوة خاصة حول “السينما في خدمة الثقافة الحسانية: توثيق التراث وإحياء الهوية”، أدارها فنانون ومخرجون من الجزائر وموريتانيا. وقد افتتحها المخرج محمد محمدي، من الجزائر، بمداخلة معنونة “البعد اللغوي للهجة الحسانية وتوظيفها سينمائيا”، استعرض فيها تجربته في تقديم أفلام ناطقة بالحسانية، مشدّدا على أن اللغة ليست وسيلة تواصل فقط، بل رافعة رمزية تحمل خصوصيات المجتمع الصحراوي.
ومن موريتانيا، قدّم المخرج والممثّل سالم دندو مداخلة بعنوان “تمثلات الثقافة الحسانية في السينما الوثائقية”، أجرى فيها قراءة نقدية لعدد من الأفلام الوثائقية الإفريقية والعالمية، مشيرًا إلى أهمية إنتاج أفلام محلية تعكس تفاصيل الحياة الحسانية من الداخل، بدلا من الاقتصار على الصور النمطية.وقد أجمع المشاركون في ختام هذا الملتقى الدولي على أهمية ترسيخ الثقافة الحسانية كعنصر فاعل في بناء الهوية الوطنية والإفريقية، مؤكّدين على ضرورة دعم البحوث الأكاديمية في هذا المجال، وتثمين التراث غير المادي من خلال التوثيق والنشر والتعليم. كما شدّدوا على أهمية الانفتاح على الوسائط الحديثة، خصوصًا السينما والمجال الرقمي، من أجل إيصال الثقافة الحسانية إلى الأجيال الجديدة، وربطها بتحولات الحاضر دون المساس بجوهرها الأصيل.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19804

العدد 19804

الإثنين 23 جوان 2025
العدد 19803

العدد 19803

الأحد 22 جوان 2025
العدد 19802

العدد 19802

السبت 21 جوان 2025
العدد 19801

العدد 19801

الخميس 19 جوان 2025