فحـص نقـدي وحــوار جـاد مــع الفلاسفـة..

كتاب “ما نفع الفلسفة؟!” يطــرح السؤال الصعب

توفيق العارف

يتناول كتاب “ما نفع الفلسفة؟” لتوماس دي كونينك استكشافًا دقيقًا ومنهجيًا لأهمية الفلسفة وضرورتها في عالمنا المعاصر، عالم يتسم بالنمو المتسارع للعلوم وتشتت المعارف. يتميز عمل دي كونينك بمنهجية فريدة تجمع بين الفحص النقدي للتاريخ الفلسفي، والحوار المستمر مع الفلاسفة السابقين، والسعي الدؤوب إلى تطبيق الحكمة القديمة على التحديات الراهنة. إنه ليس مجرد كتاب عن الفلسفة، بل هو دعوة لإحياء الفكر الفلسفي كقوة أساسية لإيقاظ والوعي.

في قلب رؤية دي كونينك، تكمن الرغبة في إحياء الفلسفة كأداة للإيقاظ الفكري والروحي. يستلهم المؤلف من أقوال سقراط الخالدة حول “الحياة التي لم يتم فحصها”، مؤكدًا على أن الفلسفة هي السبيل الوحيد للاستيقاظ من الغفلة الفكرية التي قد يقع فيها الإنسان. كما يستحضر هيراقليطس الذي انتقد أولئك الذين يعيشون في غفلة حتى وهم مستيقظون، ليؤكد أن الوعي الحقيقي يتطلب جهدًا فلسفيًا متواصلًا. الفلسفة، في نظر دي كونينك، ليست مجرد ترف فكري، بل هي ضرورة حتمية لتحقيق الوجود الإنساني الكامل.
يولي دي كونينك اهتمامًا بالغًا لقوة اللّغة والفنون، معتبرًا أنها أدوات لا غنى عنها للتعبير عن الفكر الفلسفي وتوسيع آفاق الفهم الإنساني. ويرى أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي حاملة للفكر، تشكل تصوراتنا للعالم وتتيح لنا التعبير عن أعقد الأفكار.
أما الفنون، فتتجاوز الكلمات لتلامس الروح وتفتح آفاقًا جديدة للإدراك. يستكشف المؤلف أيضًا “قوّة النظري”، وهي القدرة على تجاوز المباشر والمحسوس، والانتقال إلى التفكير المجرد الذي يمكننا من فهم الحقائق الكامنة وراء الظواهر. يرى أن هذه القدرة ضرورية للتفكير الفلسفي العميق، وتتيح لنا رؤية الصورة الكاملة بدلاً من الاقتصار على الأجزاء المتفرقة.
كما يعود دي كونينك بشكل متكرر إلى الفلسفة اليونانية القديمة، معتبرًا إياها ينبوعًا لا ينضب للحكمة الفلسفية. فهو يستلهم من أرسطو وأفلاطون وغيرهم من الفلاسفة اليونانيين الذين وضعوا أسس التفكير الفلسفي الغربي. يرى أن العودة إلى هذه الجذور تمكننا من فهم التحديات المعاصرة بشكل أفضل، وتوفر لنا أدوات فكرية قوّية للتعامل معها.
ويؤكد المؤلف على البعد الإنساني للفلسفة، مبرزًا أهميتها في فهم الوجود الإنساني ومعنى الحياة. فالفلسفة، في جوهرها، تطرح أسئلة جوهرية حول الوجود والموت والمعرفة، وتساعدنا على الإجابة على التساؤلات الوجودية التي تواجه كل إنسان. إنها ليست مجرد نظام فكري، بل هي مسعى إنساني عميق يسعى إلى إضاءة طريق الوجود.
لا يقتصر اهتمام دي كونينك على الفلسفة النظرية، بل يمتد إلى الفلسفة الأخلاقية والسياسية. فهو يتناول قضايا العدالة والمساواة والحرية، ويؤكد على دور الفلسفة في توجيه العمل الإنساني نحو تحقيق مجتمع أكثر عدلاً وإنسانية. يرى أن الفلسفة لا يمكن أن تكون منعزلة عن قضايا الحياة اليومية، بل يجب أن تساهم في حل المشكلات الأخلاقية والسياسية التي تواجه المجتمعات.

رحلة متكاملة في عالم الفلسفة

تبدأ رحلة دي كونينك في كتابه بالفصل الأول، “تذكير”، حيث يستهل الكتاب بالتذكير بأهمية الفلسفة من خلال أقوال سقراط وهيراقليطس، مؤكدًا على أن الفلسفة هي بحث عن الحقيقة ووعي بالذات. يرى أن التذكير بهذا الدور الأساسي للفلسفة أمر حيوي في عصر يسوده التخصص وتضييق آفاق المعرفة.
في الفصل الثاني، “اللّغة والفنون والفلسفة”، يستكشف المؤلف العلاقة الوثيقة بين هذه العناصر الثلاثة، وكيف تساهم في توسيع آفاق الفكر الإنساني وإدراك العالم من حولنا. يؤكد على أهمية الأدب في استكشاف الوجود الإنساني، مشددًا على أن الكلمة المكتوبة والفنون البصرية والموسيقية هي قنوات للتعبير الفلسفي العميق.ويخصص الفصل الثالث، “قوّة النظري”، لشرح “قوة النظري” في الفلسفة، وكيف يمكن للتفكير الفلسفي أن يتجاوز حدود المعرفة العلمية والتجربة الحسية. ينتقد دي كونينك التخصص المفرط الذي يؤدي إلى تضييق آفاق الفكر، ويدعو إلى رؤية أوسع وأكثر تكاملًا للمعرفة. يرى أن “النظري” يسمح لنا بالارتقاء فوق التفاصيل ورؤية الأنماط والعلاقات الأساسية التي تحكم الواقع.
في الفصل الرابع، “مشكلة النمو الأسي للعلوم”، يتناول المؤلف التحديات التي يفرضها النمو المتسارع للعلوم والتكنولوجيا. يدعو إلى رؤية تكاملية للمعرفة تجمع بين الفلسفة والعلوم، مؤكدًا أن التطور العلمي يجب أن يكون مصحوبًا بتفكير فلسفي عميق لضمان استخدامه لصالح البشرية. يرى أن العلم يقدم لنا “كيف”، بينما الفلسفة تطرح “لماذا”، وكلاهما ضروري لفهم العالم.ويختتم دي كونينك كتابه في الفصل الخامس، “تحديات الأخلاق والسياسة”، بالتركيز على التحديات الأخلاقية والسياسية المعاصرة. يؤكد على دور الفلسفة في توجيه العمل الإنساني نحو العدالة والخير، ويرى أن الفلسفة هي البوصلة الأخلاقية التي يمكن أن ترشدنا في عالم معقد.
باختصار، يقدم كتاب “ما نفع الفلسفة؟” لتوماس دي كونينك دفاعًا قويًا عن الفلسفة باعتبارها ضرورية للإنسان والمجتمع. إنه ليس مجرد شرح لأهمية الفلسفة، بل دعوة ملحة لإحياء الفكر الفلسفي النقدي والمتأمل، وتطبيق الحكمة الفلسفية على تحديات عالمنا المعاصر، من أجل حياة إنسانية أكثر وعيًا وغاية. يرى دي كونينك أن الفلسفة تخدم الإنسان “بأكمله”، وليست مقتصرة على جانب واحد من وجوده، بل هي ضرورية للحياة الإنسانية بكل أبعادها، تمامًا كالموسيقى والصحة (وفقًا لما ورد في الصفحة 142 من الكتاب).

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19783

العدد 19783

الثلاثاء 27 ماي 2025
العدد 19782

العدد 19782

الإثنين 26 ماي 2025
العدد 19781

العدد 19781

الأحد 25 ماي 2025
العدد19780

العدد19780

السبت 24 ماي 2025