يعد فن التّحريك من الفنون البصرية التي شهدت تطوّرًا هائلًا عبر العصور، حيث انتقل من رسومات الكهوف البدائية إلى صناعة ضخمة تعتمد على أحدث التقنيات الرقمية. رغم أنّ هذا الفن ارتبط في البداية بالغرب، فقد بدأت العديد من الدول، ومنها الجزائر، في استكشاف إمكانياته الإبداعية وتوظيفه كوسيلة للتعبير عن هويتها الثقافية والتاريخية.
يعود فن التحريك أو الرسوم المتحركة إلى محاولات الإنسان القديم لتصوير الحركة وتسجيل الأحداث التي عاشها. فمنذ العصور الحجرية، لجأ الإنسان إلى الرسم على الصخور والأدوات ليعبر عن مشاهد الصيد والحياة اليومية، مما يشير إلى بدايات فكرة تسلسل الحركة. هذه المحاولات البدائية كانت بمثابة البذور الأولى لفن التحريك، الذي تطور لاحقًا ليصبح أحد أهم أشكال التعبير الفني.
في القرن التاسع عشر، شهدت أوروبا اكتشافات علمية مهمة ساهمت في تطور هذا الفن. من أبرز هذه الاكتشافات نظرية “استمرارية الرؤية” التي قدمها العالم الإنجليزي بيتر مارك روجيت عام 1824. هذه النظرية تفسّر كيف أن العين البشرية تحتفظ بالصورة لفترة قصيرة بعد زوالها، ممّا يسمح بتركيب الصور المتحركة عند عرضها بسرعة معينة. بناءً على هذه النظرية، تمّ اختراع عدة أجهزة بصرية مثل “الثاو ماتروب”، و«الزوتروب”، و«البراكسينوسكوب”، الذي اخترعه إميل رينو عام 1876.
وفي عام 1888، طوّر رينو جهاز المسرح البصري، الذي سمح بعرض شرائط طويلة من الصور المتحركة لمدة تصل إلى خمس دقائق. كان هذا الجهاز بمثابة الخطوة الأولى نحو سينما التحريك الحديثة. وفي عام 1908، أنتج رينو أول فيلم تحريك حقيقي بعنوان “الأوهام”، والذي يعتبر علامة فارقة في تاريخ هذا الفن.
في الولايات المتحدة، بدأ فن التحريك يأخذ شكله الحديث مع ظهور والت ديزني، الذي أنتج أول فيلم تحريك ناجح تجاريًا بعنوان “ميكي ماوس” في عام 1928. تلا ذلك إنتاج أول فيلم تحريك طويل بعنوان “سنو وايت والأقزام السبعة” عام 1937، والذي وضع معايير جديدة للرسوم المتحركة. مع تطور التكنولوجيا الرقمية في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، شهد فن التحريك طفرة كبيرة. أصبحت تقنيات مثل التحريك ثلاثي الأبعاد (D3Animation ) والرسوم المتحركة بالكمبيوتر(CGI) وهي السائدة، مما سمح بإنشاء أفلام معقدة وغنية بصريًا مثل “حياة حشرة” (1998) و«شريك” (2001).
بدايات ومؤسّسون
في العالم العربي، بدأ فن التحريك يأخذ مكانته مع إنتاج أول فيلم تحريك مصري بعنوان “مشمش أفندي” عام 1936، من إنتاج الأخوين فرنكل. وفي إفريقيا، بدأ الاهتمام بفن التحريك يتزايد مع إنتاج أفلام مثل “ملحمة سيغو” (1989) للمالي مامباي كوليبالي، والتي تعكس التراث الثقافي الإفريقي. في الجزائر، تأسس قسم فن التحريك في التلفزيون الوطني عام 1964، وأنتج الرسام محمد عرام أفلامًا قصيرة ساهمت في نشر هذا الفن. في تونس، تم تأسيس قسم للتحريك في التلفزيون المصري عام 1961، مما ساهم في تطوير هذا الفن في المنطقة.
مع ظهور التكنولوجيا الرقمية في بداية القرن الحادي والعشرين، شهد فن التحريك طفرة كبيرة. تمّ تحرير هذا الفن من القيود المادية والمالية، مما سمح بانتشاره على نطاق أوسع. أدى ذلك إلى إنتاج أفلام تحريك عربية وإفريقية حظيت باهتمام عالمي، مثل فيلم “خف حنين” (2009) للمخرج محمد غزالة، الذي فاز بجائزة أفضل فيلم تحريك أفريقي.
مسيرة تطوّر وإبداع
تشهد الجزائر تطوّرًا ملحوظًا في مجال التحريك، حيث انتقلت من الاعتماد على الأعمال المستوردة إلى إنتاج أعمال محلية تحمل الطابع الجزائري. ورغم التحديات التي تواجه هذه الصناعة، فإن الجهود الفردية والدعم الحكومي المتزايد أسهما في تحقيق إنجازات مهمة جعلت الجزائر تحجز لنفسها مكانًا في المشهد العالمي لفن التحريك.
خلال فترة الاستعمار الفرنسي، لم يكن هناك إنتاج محلي للرسوم المتحركة في الجزائر، حيث كانت الأعمال التحريكية موجهة أساسًا للأطفال الفرنسيين، بينما اعتمد الأطفال الجزائريون على الفنون التقليدية مثل مسرح الظل (قراقوز) والحكايات الشعبية كوسائل ترفيهية. بعد الاستقلال عام 1962، بدأ التلفزيون الجزائري في عرض الرسوم المتحركة العالمية، ما ساهم في تعريف الأجيال الجديدة بهذا الفن، لكنه ظل لفترة طويلة يفتقر إلى الإنتاج المحلي. في عام 1964، تأسس قسم فن التحريك في التلفزيون الجزائري، وكان يهدف إلى إنتاج أفلام قصيرة تعكس القيم والثقافة الجزائرية. رغم قلة الموارد، نجح عدد من المبدعين الجزائريين في تقديم أعمال تحريكية، مثل محمد عرام، الذي قدم أفلامًا قصيرة ساهمت في وضع أسس أولية لصناعة التحريك في الجزائر.
مع بداية القرن الحادي والعشرين، بدأ الاهتمام بفن التحريك يزداد في الجزائر، خاصة مع توفر التقنيات الرقمية التي ساعدت على تقليل تكاليف الإنتاج مقارنة بالأساليب التقليدية. من بين المحطات المهمة في هذا المسار إنتاج مسلسل “الجزائر تاريخ وحضارة” عام 2012، وهو عمل تحريكي ضخم يتكون من 52 حلقة، يعرض تاريخ الجزائر من العصر الحجري إلى الاستقلال بأسلوب مشوق يجمع بين الدقة التاريخية والإبداع البصري. كان هذا المسلسل بمثابة نقطة تحول في مسار “جزأرة” الرسوم المتحركة، حيث حاول المبدعون تقديم أعمال مستوحاة من الثقافة الجزائرية بدلاً من استيراد المحتوى الأجنبي.
كما يعتبر فيلم “الساقية” إنجازًا فريدًا في تاريخ التحريك الجزائري، حيث يعد أول فيلم تحريك حربي ثلاثي الأبعاد على المستوى الوطني والعربي.
يتناول الفيلم أحداث ساقية سيدي يوسف خلال حرب التحرير الجزائرية، حيث قصفت الطائرات الفرنسية المنطقة في 8 فبراير 1958، ما أدّى إلى استشهاد العشرات من الجزائريين والتونسيين. الفيلم من إنتاج مشترك بين وزارة المجاهدين ووزارة الثقافة، ولاقى استحسانًا كبيرًا في المحافل الدولية، حيث حصل على جائزة مهرجان “Niigata” في اليابان وجائزة “Animatiba” في البرازيل، كما حقق تقييم 8.7 على موقع .IMDB
ويعد فيلم “خامسة بئر النسيان” أحد أفضل الأعمال الجزائرية من حيث جودة الصورة والتحريك، حيث استخدمت فيه تقنيات متطورة جعلته منافسًا للأعمال العالمية. يتناول الفيلم قصة مستوحاة من التراث الجزائري، وحاز على جائزة “Kabuku” في اليابان وجائزة أفضل عمل فني في مهرجان “Animatiba”، ما جعله واحدًا من أبرز إنتاجات التحريك في الجزائر.
أثبت بعض المبدعين الجزائريين قدرة كبيرة على تطوير فن التحريك بأساليب غير تقليدية، مثل محمد طاهر شوقي بوكاف، الذي أنتج أفلامًا باستخدام تقنية ستوب موشن (Stop Motion)، مثل أفلام “Why?” و«Stay” رغم قلة الإمكانيات، استطاع أن يحقق نجاحًا ملحوظًا.
جهود حثيثة لتطويره
نظّم المركز الديمقراطي العربي في برلين بالتعاون مع جامعة القيروان بتونس مؤتمرًا دوليًا في نوفمبر 2024، تناول موضوع فن التحريك في إفريقيا والعالم العربي. شهد المؤتمر مشاركة مبدعين وباحثين من الجزائر ودول أخرى، وناقش التحديات التي تواجه هذا المجال، بالإضافة إلى سبل تطويره ودعمه أكاديميًا ومهنيًا.
رغم التحديات فإنّ المستقبل يبدو واعدًا لفن التحريك في الجزائر، خاصة مع التطورات التكنولوجية التي تجعل الإنتاج أقل تكلفة وأكثر سهولة. هناك توجّه متزايد نحو تحويل الأعمال الأدبية الجزائرية إلى أفلام تحريك، ممّا يعزّز من انتشار هذا الفن ويجعله أداة للتعليم والتوعية الثقافية.