ليست العلوم سواء في ميزان العقل ولا في مقام الغاية. وإنّما هي مراتب شتّى، ودرجات لا تتساوى، كما أن المعادن بعضها نفيس، وبعضها خسيس..! وإن من أهل النظر الرشيد من قسّم العلم إلى أربعِ طبقات، إذا تأملتها بعين التخصص والتحليل، ظهر لك جليا أن المعرفةَ ليست مجرّد معلومات تكتسب، بل نظام قيمي (epistemic hierarchy) يبنى على الغاية لا الوسيلة، وعلى الإنسان لا الأداة.
الدرجة الرابعة: العلوم التطبيقية المادية (Applied Material Sciences)، كالطب والهندسة والفلك والجيولوجيا وسواها، وهي علوم عظيمة النفع، راسخة البرهان، تقوم على التجريب والمشاهدة، وتنتج أدوات تحسن بها البشرية معاشها، لكنها وسائل لا مقاصد، تخدم الجسد لا تهذب النفس، وتصلح المادة دون أن تقوم السلوك.
وقد بلغ الإنفاق العالمي على البحث العلمي في العلوم المادية سنة 2024 نحو 2.53 تريليون دولار أمريكي، مسجلا زيادة بنسبة 8.3 % مقارنة بعام 2022، وفقًا لتقرير صادر عن R&D World
لكن كل هذا لم يمنع من أن تزداد نسبة الانتحار في الدول المتقدمة: ففي اليابان – بلد الروبوت والتكنولوجيا – ينتحر أكثر من 20 ألف شخص سنويا، أي بمعدل واحد كل 25 دقيقة. وفي أمريكا – زعيمة الطب الحديث – تسجّل نحو 50 ألف حالة انتحار سنويا، إضافة إلى ما يزيد عن 40 مليون أمريكي يعانون من القلق المزمن والاكتئاب، بحسب إحصائيات NIMH 2023 ﴿وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾.
فدل هذا على أن الجسد إذا شفي، ولم يهذب القلب، بقي الإنسان مريضا في روحه. ولسنا نحقر هذه العلوم – معاذ الله – ولكننا نقيمها مقامها.
الدرجة الثالثة: فلسفة العلوم (Philosophy of Science)، وهي النظر في العلوم بعين التساؤل، والتأمل في الأسباب والغايات، لا في الظواهر وحدها. فإذا سأل الطبيب: “لم يتوقف شعر الرّموش عن النمو ولا يتوقف شعر الرأس؟” أو “لماذا لا توجد أعصاب في الشعر فتبقى الحلاقة بغير ألم؟”، فإنه قد ارتقى من رتبة الحاذق بالآلة، إلى مقام المتفكر في الحكمة. وهذه الأسئلة هي التي تمنع تحول العالم إلى آلة ضخمة، والعلم إلى صنعة باردة.
إن هذا النمط من العلم نادر في جامعاتنا – إلا ما رحم ربي – رغم أنّه من أرقى مسالكِ التعليم العقلي (Intellectual Inquiry)، وهو الذي ينتج الأسئلة الكبرى (Meta-questions) التي تفتح بابا للحكمة، وتخرج العلم من صناديق التخصص المغلقة إلى فضاء الرؤية الكونية.
ونمثل لهذه الفئة بالطبيب الذي يعلم أن حلاقة الشعر لا تؤلم، لكن فيلسوف الطبّ هو من يسأل: لم جعل الله الشعر بلا أعصاب؟ وفي السؤال بذاته دعوة للتفكّر، وتحريك للعقل، وتنشيط للإيمان.
وقد قال سبحانه: ﴿ويتفكرون في خلق السموات والأرض﴾ ولم يقل: “ويرون”؛ لأن الفكرة أرقى من النظرة، والتأمّل أسمى من المشاهدة.
الدرجة الثانية: العلوم الإنسانية (Human Sciences)، كعلم النفس وعلم الاجتماع والفكر والتاريخ. وهذه – وإن لم تكن قائمة على التجريب المحض – إلا أنها تبحث في الإنسان بوصفه غاية لا أداة؛ فهو المقصود من كل بناء، والمقصود من كل إصلاح. والكون كله مسخر له: ﴿وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه﴾.
ولولا فقه الإنسان نفسه، وسبره لأعماقِ وجدانه، وقراءته لتاريخه، لظل أجهل المخلوقات بشأن نفسه، وقد قال سبحانه: ﴿بل الإنسـن على نفسه بصيرة﴾.
وقد نبهت منظمات دولية مثل اليونسكو (UNESCO) أن أهم أسباب النزاعات الحديثة ليست مادية، بل ثقافية وقيمية وسلوكية. ولذلك فقد دعت منذ 2010 إلى تعزيز تدريس العلوم الإنسانية؛ لأنها تكون الإنسان قبل أن تسلّحه بالأدوات.
فأي بناء بلا إنسان قويم هو بناء على شفا جرف هار. وما نرى من صدام الحضارات ما هو إلا نتيجة لفقر إنساني في فهم الآخر. وقد قال تعالى: ﴿وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا﴾، لا ليتقاتلوا ولا ليتنافروا.
الدرجة الأولى: العلوم الروحية (Spiritual Sciences)، وهي أشرف المعارف، وأعلاها مقامًا، لا ينال إدراكها بعقل مجرد، ولا يقاس صدقها بتجربة، بل تؤخذ بتسليم كامل (Full Submission) ويقين راسخ؛ إذ هي من مشكاة الغيب لا من نور الحواس.
هذه علومُ الوحي: القرآن والسنة، وعلوم الأخلاق والمعاملات، وعلوم العلاقة بالله والخلق والكون. وهي علوم تنظم الحياة، وتهذب السلوك، وتزرع السكينة في القلب. وهي وحدها التي تضمن للإنسان سعادة الدنيا والآخرة، إن أخذها بحقها، وطبقها كما جاءت: ﴿فمن اتّبع هداي فلا يضل ولا يشقى﴾.
وتشير دراسات (مثل Pew Research Center) إلى أن الأشخاص المتدينين أطول عمرا، وأقل توترا، وأكثر تماسكا في الأزمات. والمسلم الملتزم حقا لا يسرق، ولا يزني، ولا يكذب، ولا يغدر؛ فقد حُف علمه بالحلال والحرام، والسلوك والنية.
فهل يُقارن علم ينحت العقول مع علم ينقي النفوس؟ وهل يقاوم باطن الإنسان بمجهر أو آلة؟ وقد قال ربنا – في ختام مراتب الهداية – ما يغني عن كلّ فلسفة: ﴿فمن اتّبع هداي فلا يضل ولا يشقى﴾.
وفي ما قل ودل، أقول: لا يوزن العلم بكثرة المعلومات، بل بعلو الغاية (Teleology) وسموّ المقصد. وما جعل الله العلم علما إلا ليقرب إليه، لا ليصرف عنه.
﴿إنما يخشى الله من عباده العلمـاء﴾
فمن طلب العلم ليصلح بدنا فقد نفع،
ومن طلبه ليهذب إنسانا فقد ارتقى،
ومن طلبه ليعبد الله على بصيرة
فقد أصاب الغاية وبلغ المنى.