الأدب السّاخر شكل قويّ من الكتابة يستخدم الفكاهة والسخرية لانتقاد وتحدّي المعايير المجتمعية، وقد كان جزءًا لا يتجزّأ من التقاليد الأدبية لقرون، حيث قدّم للمؤلفين أداة قويّة لانتقاد المجتمع والسياسة والثقافة، من خلال الفكاهة والسخرية والمبالغة. وفي حين أنّ هذا الأدب قد يواجه قيودًا وعقبات، إلا أنّ ظاهرة السخریة تبقى مظهرا من مظاهر النبض الواعي للوجود البشري، وشكلا من أشكال الرقي الاجتماعي.
الأدب السّاخر شكل من أشكال الكتابة يستخدم الفكاهة والسخرية والذكاء لانتقاد الأفراد أو الجماعات أو الأعراف المجتمعية، وهو وسيلة للمؤلّفين لنقل آرائهم وتعليقاتهم على جوانب مختلفة من المجتمع بطريقة إبداعية. ويمكن أن تتخذ الأدبيات السّاخرة أشكالاً مختلفة، بما في ذلك الروايات والمسرحيات والشعر والمقالات.
تاريـخ طـويـل
ولهذا الأدب تاريخ طويل يعود إلى العصور القديمة، وعرف الغرب أعمالا بارزة مثل المسرحيات الكوميدية لأريستوفانيس في اليونان القديمة، أو “اقتراح متواضع” لجوناثان سويفت في القرن الثامن عشر. ومن الأمثلة المعروفة على الأدب السّاخر رواية “مزرعة الحيوانات” (Animal Farm) لجورج أورويل، ورواية “مغامرات هكلبيري فين” لمارك توين، التي تنتقد العنصرية والعبودية في أمريكا. كما لجأ غابريـال غارسيا ماركيز إلى السخرية في روايته “خريف البطريرك”.
وقد عرف الأدباء العرب السخرية منذ القدم، من الجاحظ، إلى ابن قتيبة، وابن الجوزي، وابن مماتي، وابن عبد ربه، وأبي حيان التوحيدي، والنويري. ومن المعاصرين، برز توفيق الحكيم، ومحمود السعدني. ومن الشعراء نذكر أحمد شوقي، أمل دنقل، عبد القادر المازني، مظفر النواب، وبطبيعة الحال أحمد مطر.
الـغـرض والخصـائص
من سمات الأدب السّاخر الرئيسية استخدامه المبالغة والتشويه لتسليط الضوء على عبثية أو نفاق بعض المعتقدات أو السلوكيات، بواسطة التلاعب بالألفاظ وتوصيف الشخصيات بذكاء، وغالبًا ما يستهدف هذا الشكل من الأدب الشخصيات السياسية والأعراف الاجتماعية والمعايير الثقافية. ويعمل الأدب السّاخر أيضًا كشكل من أشكال التعليق الاجتماعي، حيث يوفر منصّة للمؤلّفين للتعبير عن معارضتهم وانتقادهم للعالم من حولهم.
والغرض من الأدب السّاخر ليس مجرّد الترفيه، بل إثارة التفكير النقدي والتأمّل، حيث يشجّع المؤلّفون السّاخرون القراء على التشكيك في أفكارهم، بتقديم المواقف المألوفة في ضوء فكاهي ومبالغ فيه، ومن خلال السخرية، يمكن للمؤلّفين تسليط الضوء على الظلم الاجتماعي وعدم المساواة التي قد تمرّ دون أن يلاحظها أحد.
وترى مارية ريمة غربي (جامعة أم البواقي) أنّ ظاهرة السخریة مظهر من مظاهر النبض الواعي للوجود البشري، وشكلا من أشكال الرقي الاجتماعي، لأنّها تمثل جانبا من الجوانب المعتملة في أعماق الأدیب الذي یرید الإصلاح، من خلال النقد السّاخر لواقع الأمّة وأحوال المجتمع.
أمـثـلة جـزائـريـة
وتنقل الباحثة رأي عبد المالك مرتاض عن السخریة، حيث يرى فيها سلاحا معنويا أشدّ وقعا في النفوس من العنف اللفظي، وتنقل عنه قوله إنّ “السخریة لا تختلف كثيرا عن العنف، لأنّ استخدام سلاح السخریة في الأدب هو في حدّ ذاته ضرب من العنف”، والسّاخر “یقصد من ورائها محاولة التخلّص من بعض الخصال السلبیة في المجتمع.”
ولم تخلُ التجربة الأدبية الجزائرية المعاصرة من الأعمال السّاخرة..ومن الأسماء التي تذكرها روفيا بوغنوط (جامعة أم البواقي) الكاتب والناقد سعيد بوطاجين، مركّزة على عنوان “أعوذ بالله”، إلى جانب زكرياء ثامر في قصة “الحصرم”.
من جهتها، خصّت الباحثة مارية ريمة غربي بالدراسة خطابات الإمام البشیر الإبراهيمي، الذي “اتخذ من الأسلوب السّاخر سیفا قاطعا لمحاربة خصوم جمعیة العلماء المسلمين من استعماریین” أرادوا سحقها والقضاء على مبادئها، حیث شغل هذا الأسلوب حیّزا كبیرا في مقالات “عیون البصائر”، فكان انعكاسا لموقفه الفكري الصادق الممثل للقیم الحقیقیة، المستهجن للتناقضات الكائنة.
وخلصت الباحثة إلى أنّ الإبراهيمي قد تفنّن في تشكیل هذا اللون الفني، موظفا تقنیات وأسالیب مختلفة استقى مادتها من نبع البلاغة العربیة، مضفیا عليها لمسة من روح الدعابة التي یتمتع بها، وجامعا فيها كلّ ما أوتي من ثقافة علمیة ودینیة وتراثیة، فقد تمكّن بفضل براعته الفنیة ومقدرته البلاغیة المنقطعة النظیر أن یحقّق الهدف الجمالي والنضالي والتربوي الذي ما فتئ ینتظره أنصاره من دعاة الأصالة والحریة.
الحــــدود والــــقــــــيــــــود
على الرغم من قدرته على إثارة الفكر والمناقشة، فإنّ طريق الأدب السّاخر ليست خالية من العوائق والعقبات.
من بين القيود الأساسية لهذا النوع من الأدب إمكانية سوء فهمه أو تفسيره من قِبل القراء، ويمكن أن تفاقم الاختلافات الثقافية ذلك، حيث أنّ ما يعتبر فكاهيًا أو مقبولاً في مجتمع ما قد لا يكون كذلك في مجتمع آخر. نتيجة لذلك، يجب على الكاتب السّاخر السير على خط رفيع بين تجاوز الحدود وتنفير جمهوره.
عقبة أخرى هي خطر ردّ الفعل العنيف أو الرقابة. نظرًا لطبيعتها المثيرة للجدل، يمكن للأعمال السّاخرة أن تثير سخط الأشخاص المستهدفين، ما قد يؤدّي إلى دعوات للرقابة أو الحظر على أعمال معيّنة، بل قد يواجه الكتّاب السّاخرون، في بعض الحالات، عواقب قانونية.
تحدٍّ آخر يواجه الكتاب السّاخرين هو صعوبة الحفاظ على الصلة بمرور الوقت، فالسخرية غالبا ما تكون استجابة لأحداث أو اتجاهات معينة داخل المجتمع، ما يجعلها عرضة للتقادم أو عدم الصلة مع تغيّر الظروف. إنّ الأعمال السّاخرة التي تعتمد بشكل كبير على المراجع الموضوعية قد تفقد تأثيرها مع تلاشي هذه المراجع من الوعي العام. وهذا من شأنه أن يحدّ من طول عمر الأدب السّاخر وقوّته الدائمة، حيث قد يكافح القراء للتواصل مع الأعمال التي لم تعد يتردّد صداها مع تجاربهم الخاصّة.
كما قد يكون الأدب السّاخر محدودًا بقيود نوعه الخاصّ، فالاعتماد على المبالغة يؤدّي أحيانًا إلى التبسيط المفرط، ما قد يقلّل من عمق الموضوع وأهمية القضايا المعالجة. بل وقد يصبح الشكل السّاخر نفسه نمطيًا أو يمكن التنبؤ به، ممّا يقلّل من قدرته على مفاجأة القراء.
ويمكن أن يواجه الأدب السّاخر قيودا في نطاقه وتأثيره، باعتباره يستهدف مجموعات اجتماعية محدّدة. وقد تفشل الأعمال السّاخرة في إقناع من يحملون وجهات نظر معارضة، فيضيق تأثيرها على المجتمع ككلّ. كما قد يهمّش الأدب السّاخر داخل المجال الأدبي، وتغلب عليه أشكال أكثر تقليدية، وتطغى عليه المصالح التجارية.
وللتغلّب على هذه الحدود والعقبات، يجب على الكتّاب أن يكونوا على دراية بجمهورهم ورسالتهم والسياق الثقافي والسياسي الذي يبدعون فيه، وأن يسعوا إلى الوضوح والدقّة في أعمالهم، وتجنّب الغموض أو الارتباك الذي قد ينتقص من رسالتهم. ويتوجّب عليهم أيضًا أن يكونوا على دراية بالعواقب المحتملة لعملهم، وأن يكونوا مستعدّين للدفاع عن أفكارهم.
ممّا سبق، يتضح أنّه كثيرا ما يُساء فهم هذا الشكل من الأدب، باعتبار السخرية مسيئة أو مثيرة للجدل..بالمقابل، من المهم أن ندرك أنّ السخرية تخدم غرضًا قيمًا في تعزيز الحوار وزيادة الوعي بالقضايا الاجتماعية، ويجب النظر إلى الأدب السّاخر على أنّه وسيلة للتعليق والنقد الاجتماعي، لا وسيلة للهجوم الشخصي أو التشهير.