في كتابه «فلسفة الجمال والإبداع الفني»، الصادر حديثا عن «ألفا للوثائق»، يتطرّق الوردي حيدوسي إلى مختلف المدارس الفلسفية التي تصدّت لموضوع الاستيطيقا، وتساءلت حول أصل وطبيعة ومعايير الجمال والفن. ويعتبر المؤلف أن التنوع هو ميزة عالم الجمال والفن الأساسية، وهو ما انعكس على أفكار الفلاسفة وآرائهم. كما يلاحظ المؤلف أن الإنسان المعاصر يقبع تحت استعمار التكنولوجيا والمال، ويسعى الفن لتحريره بممارسة عملية النقد.
صدر، هذه الصائفة، كتاب «فلسفة الجمال والإبداع الفني» لمؤلفه الدكتور الوردي حيدوسي (جامعة بسكرة). ويتضمن الكتاب، الصادر عن دار «ألفا للوثائق»، في 114 صفحة، مختلف المدارس التي تطرقت إلى الجمال والفن، ودورهما في حياة الإنسان.
من أثينا.. إلى الفلسفة المعاصرة
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول، حمل الفصل الأول منها عنوان «الفن والجمال في الفلسفة اليونانية والحديثة»، وتطرّق فيه المؤلف إلى الفلسفة اليونانية، وبالتحديد إلى فلسفة الجمال عند كل من أفلاطون وأرسطو. كما عرّج هذا الفصل على الجمال في الفلسفة الحديثة، حيث تطرق المؤلف إلى فلسفة الجمال عند كل من أمانويل كانط وفريدريك هيغل.
أما الفصل الثاني «من فلسفة الفن إلى علم الجمال» (وهو أقصر فصول الكتاب بأقل من 20 صفحة) فقد خصصه المؤلف لمفهوم فلسفة الفن، ونشأة علم الجمال، قبل أن يتطرّق إلى مدرسة فرانكفورت.
فيما عالج المؤلف في الفصل الثالث «مشكلة الإبداع الفني» مجموعة من النقاط، حيث تطرّق إلى النظرية الاجتماعية، وأشار خلالها إلى التنظيم الاجتماعي للفن (المفاهيم الغير جمالية في الحياة الفنية، والنظم الفنية في الحياة الاجتماعية)، وإلى المظهر الاجتماعي للفن وأبعاده الاجتماعية، وأهم رواد النظرية الاجتماعية في الإبداع الفني.
وتحت نفس الفصل، تحدث حيدوسي عن النزعة البراغماتية، مركزا على نموذج جون ديوي، حيث أشار إلى معايير الخبرة الجمالية (مبدأ التحول في الخبرة الجمالية، ومبدأ استمرارية الخبرة الجمالية، ومبدأ تكامل الخبرة الجمالية، ومبدأ تفاعل الخبرة الجمالية)، وأيضا إلى نظرية التعبير، ودور الانفعال في العمل الفني، والمادة والصورة، والبعد الزماني والمكاني في الفن.
وتطرّق المؤلف إلى الحدسانية، حيث قام بتعريفها، قبل أن يشير إلى نظرية الإبداع، ثم إلى نظرية الإلهام والعبقرية، وأخيرا، إلى نظرية الضحك.
التنـوع ميـزة الجمـال
يرى الوردي حيدوسي أنه لا شكّ في كون الإنسان كائنا ذا أبعاد فنية جمالية، لديه القدرة على التذوق وإصدار أحكام استطيقية، بمعنى القدرة على الحكم الجمالي على الموضوعات التي تحيط به، وكلما رغب الإنسان في الفن، اتسعت رغبته إلى محاولة تحديد أنواعه، واختيار الأنسب منها بما يتناسب مع ذوقه الجمالي، والعدول مقابل ذلك عما لا يروقه أو لا يتناسب مع حسه الجمالي.
ويعزو المؤلف ذلك إلى أن معيار الجمال ليس واحدا لدى جميع الناس، وبالتالي ليس نفسه لدى فئة الفنانين ومن ثمّة فلاسفة الفن والجمال، فلكل نظرته الخاصة إلى الجميل، ومعاييره روحية وجدانية كانت أم حسية مادية، وتتحدّد نظرة الفيلسوف إلى الجمال وإلى العمل الفني انطلاقا من انتمائه المذهبي، والتيار الفلسفي الذي يتبناه ويدافع عنه، وهو انتماء يسقطه على سائر المشكلات الفلسفية بما فيها الفنية والجمالية.
على أن الميزة الأساسية التي يكاد ينفرد بها عالم الفن والجمال هي التنوع، يؤكد حيدوسي، مشيرا إلى أن الإبداع الفني يضمّ كل العناصر والإبداعات والابتكارات التي يمكن أن تخلقها ذات عاقلة، وهذا التنوع بدوره يطرح إشكالية ما يجعل عملا ما ابتكارا وإبداعا، وفي هذا الصدد تتراوح آراء الفلاسفة بين عوامل مختلفة تكاد تكون أحيانا متناقضة، كالمحاكاة والحدس والخيال، والعبقرية والدهشة وغيرها، ومن النادر أن تتفق عقول الفلاسفة من أصحاب المذاهب الكبرى حول ماهية الإبداع الفني، وعوامل الحكم على موضوع ما أنه جميل أم قبيح.
مـن أيـن يأتـي الجمـال؟
ويلاحظ الوردي حيدوسي، في مقدمة كتابه، أن المواضيع المتعلقة بطبيعة الجمال هي من بين أهم المواضيع التي تعد إشكالا في مجال فلسفة الفن والجمال، فما يحرك الفنانين على اختلافهم ليس واحدا، وبالتالي فإن معيار الجمال كذلك ليس واحدا، بل تتعدّد المواقف إلى حدّ التناقض، ففرق بين النظرة المثالية إلى الجمال والنظرة الواقعية، ومن جهة أخرى فرق كبير بين نظرة المدرسة الحدسانية ونظرة الفلسفة البراغماتية، وإذا كان الاختلاف سمة الفلسفة وأساس بناء المواقف والمذاهب الفلسفية، فإن ذلك ينسحب كذلك على مجال فلسفة الجمال.
ويطرح الكاتب مجموعة من الأسئلة، يقول: «حينما نتحدث عن تيارات فلسفية كبرى في مجال فلسفة الفن والجمال، فإن ذلك يحيلنا من دون شكّ إلى مشكلة ذات صلة وهي المتعلقة بأصل الجمال، وحول ما إذا كان مرتبطا بالعالم المنظور، أم أنه مستمد من عالم قبلي أطهر وأنقى وأسمى من العالم الحسي، هل الجمال مرتبط بما تراه العين أن أنه متعلق بالوجدان والشعور؟ هل هو قضية فردية خاصة أم أنه مسألة اجتماعية دينية؟ هل تذوقه متاح لجميع الفئات الاجتماعية والعمرية ولسائر الأجناس أم أنه حكر على فئة بعينها دون سواها؟»
وتحيلنا هذه التساؤلات إلى مشكلة لا تقل صعوبة واستشكالا ألا وهي طبيعة الأعمال الفنية، يقول المؤلف، مضيفا أن النقاش حول الأعمال الفنية قد ساد طيلة تاريخ الفلسفة، ويعتبر الكاتب أن أسئلة على غرار: «هل هي مجرد نسخة للطبيعة، أم تقليد ومحاكاة لها؟ أم أنها نتاج الخيال والإبداع والعبقرية؟» هي تساؤلات أثارت الكثير من الجدل، وأفرزت مذاهب وتيارات فنية متباينة ومختلفة، غير أنها حاولت أن تغطي الإبداع الفني من سائر جوانبه.
المـــال والتكنولوجيـا.. و«استعمــار» الإنســان المعاصـر
والحديث عن طبيعة الجمال وآليات العمل الفني، يدفع كذلك إلى الحديث عن التقنية المعاصرة، وتطور وسائل الإعلام والاتصال، وتداعيات العولمة وتأثيراتها على الإنسان المعاصر، وبالتالي انعكاس ذلك كله على ميدان الأعمال الفنية، وتحديد معايير الجمالية لديه، حيث أصبحت الآلة اليوم قادرة على إنتاج أعمال فنية تضاهي في جماليتها ما ينتجه الفنان، وربما تكون أكثر جمالية، خصوصا في مجال السينما والمسرح والإنتاج التلفزيوني، حيث أصبح الاعتماد على تقنيات جديدة أضفت جمالية أكثر على الإنتاج والعمل الفني.
وبدخول العمل الفني عالم المال والأعمال، أصبح الحديث عن مقولة «الفن من أجل الفن»، في سعي للتخلص من الطابع المادي النفعي التجاري الذي لحق بالأعمال الفنية، وربط العمل الفني برسالة سامية تجعله غاية في ذاته بتعبير كانط، أو تجعله أداة لتخليص الإنسان المعاصر من أصنام المادة التي روجت لها الشركات العملاقة متعدّدة الجنسيات والعابرة للحدود، والتي جعلت سعادة الإنسان وجمالية حياته في مدى قدرته على امتلاك ما تنتجه تلك الشركات من أدوات الراحة والرفاهية، كأجهزة الإعلام الآلي، والهواتف النقالة، والربط بوسائل التواصل الاجتماعي على اختلافها.
ويرى حيدوسي أن هذا يعني، من الناحية الاستطيقية، أن الإنسان المعاصر يعاني استعمارا من نوع خاص وفي وضعية صعبة للغاية، سوف يلعب العمل الفني والفنان تحديدا دور المنقذ له منها، فيسعى الفن لتحرير الإنسان المعاصر من تلك القيود من خلال ممارسة عملية النقد، في وقت عجزت سائر المؤسسات الخاصة وحتى العمومية من الوقوف في مواجهة تسلط تلك الشركات، ليؤدي الفنان «عملا أخلاقيا وبطوليا في الوقت ذاته، لنعيد ربط الفن بالأخلاق ونتجاوز فترة الفصل بينهما التي كان قد دعا إليها كانط في وقت سابق».
وقد حاولت الاتجاهات الفلسفية الكبرى، منذ الفلسفة اليونانية وقبلها الحضارات الشرقية، إلى الفلسفة المعاصرة وخاصة مدرسة فرانكفورت، وضع أسس عامة ومعايير محددة للعمل الفني من جهة، وشروط أخرى للجمال وطبيعته وأصله وقيمته، واختلفت المواقف إلى حدّ التناقض من حيث أن الاختلاف سمة العمل الفلسفي، يلاحظ حيدوسي، الذي يلخص موقف نخبة من الفلاسفة من الفن، من أفلاطون الذي جعل من المحاكاة أسلوبا لبلوغ المطلق، إلى تلميذه أرسطو الذي أعاد الشرعية للفن والفنانين باسم المحاكاة، غير أنها محاكاة من نوع آخر وليست مرتبطة بالضرورة بعالم ما وراء الطبيعة، إلى هيجل الذي ربط العمل الفني بالمجتمع والدولة، ثم كانط الذي ربط الفن بالنزاهة، ودعا الفنان إلى تخليص الفن من قيوده، إلى مدرسة فرانكفورت التي لعبت دورا أساسيا في تحديد معايير جديدة للجمال، ووضع آليات تجعل من الفن مخلصا للإنسان، ليغدو الفن في عهد مدرسة فرانكفورت أكثر ارتباطا بالواقع، وأكثر إسهاما في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والجمالية، يقول المؤلف.
وخلص الوردي حيدوسي إلى أن الإنسان لا يحتاج فقط إلى العمل، بل يحتاج كذلك إلى الفن، وهذا الأخير يمنح الروح التوازن اللازم لحياة متوازنة لا يمكن الحصول عليها بالعمل المادي فقط، لذلك كان اهتمام الفلاسفة كبيرا بهذا الميدان الذي لا يقل قيمة وأهمية عن سائر الميادين الحياتية الأخرى.