صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة «ترجمان» كتاب حدود الليبرالية: التراث، والنزعة الفردية، وأزمة الحرية، من تأليف مارك ميتشل، وترجمة محمد عبده أبو العلا، وهو مؤلف من تصدير ومقدمة وخمسة فصول وخاتمة، تتناول إشكالية علاقة التراث بالحداثة في المجتمعات الحديثة ضمن ما سماه «النزعة المحلية الإنسانية»، وهي طرح ثالث قدمة الكتاب بيّن عيوب سياسات الهوية والنزعة الكونية المعادية للخصوصيات والتراث. يقع الكتاب في 416 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
تمثّل إشكالية علاقة التراث بالحداثة للدوائر الأكاديمية والثقافية العربية اليوم محورَ الفكر، في ظل إخفاقات الحداثة يومًا بعد يوم، وهنا تكمن أهمية كتاب حدود الليبرالية الذي يقدّم فيه مؤلفه مارك ميتشل مقاربة جدلية جديدة وطريفة ورصينة لهذه الإشكالية تعتمد النظر إليها باعتبارها إشكالية عامة لجميع المجتمعات الحديثة، وذلك ضمن ما سمّاه «النزعة المحلية الإنسانية»، بوصفها طرحًا بديلًا ثالثًا يتفادى عيوب النزعة القبَلية المتحجّرة لسياسات الهوية، المحرِّضة على العنف والمتّسمة بالشك في الآخَر وكراهيته، والنزعة الكونية السياسية والثقافية المعادية للخصوصيات والتراث والماضي، ويرى فيهما عدوانًا على الحرية الفردية والمساواة، في حين تقدِّر نزعة ميتشل الإنسانية التنوعَ الثقافي وتراثياته، وتقاوم التجانس في الليبراليات الحديثة، وهي ليست مدفوعة بخوف الآخر وكراهيته، بل تدرك الاختلافات الحتمية في الطبيعة الإنسانية التي يتقاسمها البشر.
تـصديــر
مع الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي في عام 2016 (بريكسيت)، والهلع الذي انتشر بعد تسلم دونالد ترامب السلطة في عام 2017 في أوساط المقتنعين باحتضار فكرة الحدود الجغرافية الآمنة والسياسات التجارية المبكرة للولايات المتحدة الأمريكية، وهو العام الذي قام فيه طلاب ومدرّسون محتجون في «معهد أميركان إنتربرايز» بترويع المُحاضر تشارلز موراي ومضيفته أليسون ستانغر عبر الصياح والهتاف المتواصلَين لمنعهما من بدء ندوة لهما، وتسبُّبهم في ارتجاج في المخ بالنسبة إلى ستانغر نتيجة وقوعها أرضًا بعد اللحاق بهما إثر انسحابهما، وطُرد المهندس جيمس دامور في «غوغل» بتهمة «التحريض على بيئة عمل عدائية» لقوله إن ثقافة غوغل أصبحت «غرفة صدى» لا يُسمح فيها بأي معارضة، وإن عدد المبرمِجات النسوة هو أقل بسبب اختلاف الاهتمام بهن عن الرجال، معتبرًا ذلك تحيزًا ليبراليًّا. وقُتلت سيدة سوداء خلال اشتباك بين مجموعتين؛ إحداهما مؤيدة «كلانسمين» Klansmen والثانية معارضة «أنتيفا» Antifa، لإزالة تمثال جنرال الحرب الأهلية روبرت لي، الذي كان نصْبُه تكريمًا لقادة حمَوا نظام العبودية في زمان مضى.
يسعى كتاب حدود الليبرالية للتذكير بحقائق أساسية، اقتداءً بقول صمويل جونسون إن الناس في حاجة إلى التذكير أكثر من حاجتهم إلى التعليم، فالناس يسيرون على غير هدى، ويشعرون بالمنعطفات الخاطئة أو الخطرة بحسهم الباطني لا غير، وفي وقتِ تذكيرهم سرعان ما يعترفون بأنهم كانوا على دراية بالجديد الذي تلقوه طوال الوقت؛ وبناء عليه، فهم «بلا عذر»، لكن شعورهم بالمسؤولية يمنحهم الأمل، وبموجبه يختارون تذكُّر ما نسوه طويلًا، أو الخضوع لأمر رفضوه تكرارًا.
مـســح عــام
رُدِّدت على مسامعنا طويلًا عبارةٌ ندركها غريزيًّا وجماعيًّا: التحرر أمر جيد. ومع تسليمنا بأن التحرر من العبودية أو القمع طيبٌ، فهل يُعَدّ التحرر من التراث، بلا لَبْس، أمرًا طيبًا؟ للإجابة عن هذا التساؤل، درس كتاب حدود الليبرالية الهجوم الحديث على التراث، والذات الليبرالية المتورِّطة فيه، والنزعة الكونية السياسية، إلى جانب سياسات الهوية، ولإنجاز المهمة احتاج إلى استجلاء مصطلحات أساسية نستعرضها فيما يأتي.
الـلـيبراليـة
مع استحالة تحديد زمن بداية العالم الحديث، شكّلت سماتٌ وتحولاتٌ فارقة دليلًا على ظهوره، مثل: صعود العلوم، وتفكُّك العالم المسيحي، وتحول الفلسفة المعرفي، وتطور فكرتي الطبيعة والعقد الاجتماعي، وغير ذلك. وقد ركّز الكتاب على بحث سمة في العقل الحديث هي «تشويه التراث»، تنظر إلى الماضي باعتباره مكانًا معتمًا مُغرِقًا في الجهل والتخلف، يسكنه بؤساء وتعساء، وإلى المستقبل مكانًا مشرقًا مبشرًا بالأمل، يسكنه أفراد سعيدون حكماء استطاعوا الانفكاك عن ربقة الماضي، وذواتهم مستقلة وحرة إلا مما تختاره، وحرية الاختيار هذه شكّلت عُملة العالم الحديث للتقدم نحو التحرر من قيود التراث والعرف والطبيعة. هذه الذوات هي المَثل الأعلى لما أصبح يسمى «الليبرالية» في عصر يُعتَزّ فيه بالحرية، وينظَر إلى عوائقها بوصفها إهانة.
مـساهـمـات رولـز وهـوبـز ولـوك وروسـو
الموقف الأصلي للمساواة لدى جون رولز، عميد الفكر الليبرالي في القرن العشرين، «افتراضيّ بحت»، يمكن أيّ عاقلٍ دخول هذا الموقف في الخيال، ويخيم فيه على الأفراد «حجاب من الجهل» بمكانتهم المجتمعية والطبقية وقدراتهم من الذكاء والقوّة وأمثالهما، وبـ»بالموقف الأصلي» و»حجاب الجهل» معًا يصبح الجميع متساوين وعقلانيين وأحرارًا في الاختيار، وفيه أيضًا ممكنٌ تجريد الأشخاص من خصوصيات التاريخ والثقافة والانتماء والطبع وإبقاء هوية العقل المستقل، فجوهر الهوية الإنسانية هو القدرة على الاختيار المتوافق مع العقل.
من جهة أخرى، اعتَبَر مفكرون توماس هوبز مؤسِّسَ الليبرالية؛ إذ يبدأ بـ»الفرد الذري» ويحصر تحليله للسيادة في فكرة الموافقة، ويذهب إلى أن النزعة الفردية Individualism يمكنها الإفضاء إلى الحكم المطلق، وبسبب نسقيته الصارمة نفّرت استنتاجاتُه العديد من القراء.
أما جون لوك الذي يُنظر إليه باعتباره معتدلًا؛ لأنه بقي مخلصًا لتراث المفكرين المدرسيين الأخلاقي في القرون الوسطى، الممتد إلى شيشرون وأرسطو، فقد استمر في تأكيد نظرة تقليدية للمجتمع والأخلاق لا يخضع الأفراد فيها باعتبارهم أحرارًا ومتساوين إلا للقانون الطبيعي، ونظرًا إلى مخاطر هذا القانون يتنازلون عن التعاقد لتشكيل مجتمع آمن عن بعض حقوقهم (كالحق في معاقبة الجناة) للسلطات، ويخضعون لقرار الأغلبية. ويرى مؤلف حدود الليبرالية ميتشل، أن منظورات التفكير الليبرالي «اللوكي» (نسبة إلى لوك) موجودة لدى الشعب الأمريكي: منظور موافقة المحكومين، ومنظور اعتبار الأفراد أحرارًا ومتساوين، ومنظور شرعية حكم الأغلبية، وغيرها، لكن الأمريكيين يتميزون بتشكيكهم في تراث الماضي، ويناضلون لغد أفضل بالعمل الشاق فقط، وحتى مع الظروف الصعبة لا تتوق نفوسهم إلى حكمةٍ ما في الماضي. وبرغم هذا يؤكد ميتشل هشاشة البناء المؤسسي الأمريكي اللوكي، ويطرح السؤال الاستجوابي التالي: «ما الذي يمنع الأغلبية من قمع الأقلية؟»، معتبرًا وقوع المظالم الجسيمة مسألة وقت، وأن العقد الاجتماعي يتحول وسيلة للقمع بتوحيد الأفراد قواهم وتشكيل أغلبية.
أما جان جاك روسو، فيتحدث عن «رابطة» تحمي كل عضو فيها ومصالحَه، وتبقيه حرًّا في خياراته رغم اتحاده بالمجموعة (المجتمع)، لكنه بخلاف لوك الذي يقول بالتنازل عن حق العقاب فقط، يدعو إلى مساواة يتنازل فيها الفرد عن جميع حقوقه لكل أعضاء المجموعة، وبذلك يَكسب ما يخسره متمثّلًا بقوة تحافظ على ما لديه هي قوة الأفراد مجتمعين، وهم الحاكم في مخطط روسو، وحكمهم على غيرهم هو على أنفسهم في الوقت عينه، وبهذا المفهوم الروسوي، تصبح السلطة غير محدودة وغير خطرة في آنٍ، ولا يحق السؤال عمّن يسنُّ القوانين طالما أنها من صنع الإرادة العامة، ولا عن جورها؛ لأنه لا أحد يجور على نفسه، ولا عن جمع الفرد بين حريته والخضوع للقوانين، فالأخيرة مدوَّنات لإرادته.
مـوجـات اللـيـبرالـيـة
أولًا: الليبرالية الأولى (المعتدلة)، وقد بدأت بأفراد يتَّحدون لإضفاء الشرعية على ممارسة السلطة، ويكونون بلا تأملات غيبية أو معتقدات دينية مثيرة للفُرقة، ويبدأون بالبديهي، مثل الطبيعة الإنسانية الفردية غير الخاضعة لأي سلطة، مع رفض صريح لسلطة التراث في التعامل مع الشؤون الإنسانية لمصلحة اتِّباع نهج عقلاني، وفي هذا السياق يأتي التأسيس الأمريكي، بخلاف الثورة الفرنسية التي انطلقت بعده ببضع سنوات فقط في بيئة غير صحية، ووصلت فيها مُثل الحرية والإخاء والمساواة (الرائعة عند وجودها في سياق ملائم) إلى مستويات متطرفة، وبدلًا من ولادتها نظامًا جديدًا للحرية، انزلقت بالثورة نحو الفوضى وإراقة الدماء، وأعادت سلطة دكتاتور هو نابليون.
ثانيًا: الليبرالية الثانية، وقد استُهِلّت بنزعة هوبز الذرية الفلسفية Atomism، المُدرِكة بعمق وشمولية مبدأ الاستقلال الذاتي والاختيار الحر للفرد. وعلى الرغم من أنه ليس في وسعنا اختيار ما سوف نفعله، أو أين سنعيش، ومن الذين سننسج معهم علاقات، ما يقلل من زعم حريتنا، فإن الليبرالية «تحرق» أي عوائق لممارستنا غير المحدودة للإرادة الفردية، مع تنحية الحدود المسيحية اللاهوتية ورفض معتقَد أن الطبيعة نُظِّمت معياريًّا لإفضاء «بعض» الأنشطة الإنسانية إلى الازدهار، وبناءً عليه لم يعد يُنظر إلى الله والطبيعة باعتبارهما دليلَين موثوقَين، وباتت مقولاتهما مائعة ولا تخضع لشيء سوى الإرادة.
اعتمدت ليبرالية الموجة الأولى على موارد التراث المشتمل على خيرات جوهرية فرديًّا وجماعيًّا. ومع تشويه التراث عبر المؤسسات والممارسات والعادات، تنحّى «خيرها» الجوهري لمصلحة الخير المتصوَّر في الموجة الثانية التي لم تهتمّ إلّا بإجراءات تقرير الأفراد مصلحتهم الخاصة، وعندما نضجت ليبرالية الموجة الثانية اختزلت مطالبات الخيرات الجوهرية بالاختيار الذاتي.
الـنزعة الـكونيــة
تلاشت اليوم بوجود «الجمهورية الشاسعة» جمهوريةُ روسو «المثالية» التي ناصرها مع مونتسكيو ومناهضي الفدرالية، وربط طردًا بين حجمها وحريتها، رافضًا الوصول بهذه الحرية إلى الحد الأقصى.
إن الوجود السياسي لدى كل من روسو وهوبز هو النزعة الفردية والدولة الموحَّدة، وهما «توليفة سامّة» من حرية مطلقة ومكوِّن سياسي يُدرِج الاختلافات التراثية في عنوان الوحدة، ومن ثم أفراد يختارون باستقلالية مع دافع يسعى للقضاء على اختلافاتهم، وفي شرح أبسط: «تتخفى اللاليبرالية في جيوب الصّرح الليبرالي المظلمة».
أما النزعة الكونية، فتمثّل نتيجة طبيعية لليبرالية، وهي قصة التقدم نحو عالم شبه خالٍ من الاختلافات والحلم الذي يقود العولمة؛ القوة التي ستوحدنا جميعًا في وقت قريب.
يشير مصطلح «شخص كوني»، عمومًا، إلى إنسان لا تعميه التحيزات للمحلي، ويُظهر التسامح للأجانب بدلًا من الكراهية، والعقل بدلًا من التحيز، والنزعة العالمية Universalism بدلًا من المحلية Localism، ويرى في نفسه مواطنًا عالميًّا، ويرتاب في الوطنية ويخشى القومية، ويمتد مجتمعُه المحلي ليسع البشرية جمعاء، ويشكل التراث بالنسبة إليه عائقًا أمام المستقبل، ويحلم بعالم متحرر من قيود التراث المحلي وخصوصياته. لكن محاولة تجاهل التراث لولوج عصر كوني موحَّد كانت خطأً فلسفيًّا وكارثة اجتماعية، فمصطلح «النزعة الكونية» استُخدم بطرائق عدة؛ بمرونة صبّت في فائدة المصطلح، وبالتباس سبَّبه تداخلُ المعاني. وقد ذهب شيشرون إلى ارتباط الناس جميعًا بقانون متجذر في العقل وصادر عن الله هو العقل السوي المنسجم مع الطبيعة، في «نزعة كونية» أخلاقية نظر عبرها إلى البشر جميعًا بصفتهم شركاء في نظام طبيعي يدركه العقل؛ هو قانون أثينا وروما ذاته الآن، وكذلك سيكون في المستقبل، وسيكون الإله هو الذي وضع هذا القانون وأقرَّه وفسّره. ولكن، من الأهمية أن نشير إلى أن التركيز على الكون الأخلاقي يستتبع بالضرورة قيام دولة مدينة عالمية فعلية.
وفي العصر الحديث، يُعَد كانط شخصية رئيسة في تاريخ «النزعة الكونية»، فقد دافع عن نزعة عالمية أخلاقية سمّاها «الأوامر المطلقة»، يعامَل الأشخاص فيها بوصفهم غايات لا وسائل، وتختلف عن نظيرتها الشيشرونية؛ إذ العقل فيها منفصل عن الطبيعة، والإنسان مستقل ذاتيًّا، واستُعيض عن إله شيشرون بالعقل. إن صيغة كانط المُعَلمَنة هذه تترافق ورؤية سياسية، تتلخص في دخول الشعوب مجتمعًا عالميًّا يبلغ صدى انتهاك أي جزء منه كل مكان، ولذا، لم تعد فكرة التشريع الكوني خيالًا؛ إذ بات تدوين حقوق البشرية غير المكتوبة واجبًا.
عملت بعض التقنيات على استفحال الذات الليبرالية والثقافة المعولمة، مثل: الآيفون، والسيلفي، ورَقمنة الزمن، واستبدال اللحظة الفورية المنفصلة عن أي سياق زمني بالساعة التناظرية (ذات العقارب)، وثقافة البوب التي تنتشر بسهولة وتُستهلك بلمسة زر وتقوّض الثقافات الفولكلورية المحلية المتجذرة، لكنها علَّمت خيالنا رؤية ذواتنا ذرات منفصلة عن السياق الزمني وليس ورثة لهبات ثقافية.
تشهد صراعاتٌ اليومَ بين الذين يدافعون عن صيغة من النزعة الكونية الليبرالية والمنتصرين لفكرة التراث، وبين حركات الحكم الذاتي المحلي والدولة الوطنية من جهة، والدول الوطنية والكيانات العابرة للحدود من جهة أخرى، نقاشاتٍ أخلاقيةً وسياسية تكشف عن انقسامات فلسفية عميقة، كالتي تدور حول الـ «بريكسيت»، وقد تكفّلت التكنولوجيا بإنقاذنا من أزماتنا، وضمان التقدم غير المحدود السعادة للبشرية، والزواج والهوية الجنسانية، والحدود الجغرافية الوطنية، وغيرها، وهو جدل لن ينتهي قريبًا.
كان الـ»بريكسيت» وفوز ترامب جزءًا من «التسونامي» الذي يعصف بالأجندة الكونية الليبرالية التي تناصر سياسة التعاون الدولي على حساب النزعة الوطنية، وتحتفي بالعولمة التي تعرضت أخيرًا لسلسلة نكسات. أما باراك أوباما، فقد سعى لرؤية عالم أكثر توحدًا، وفي رأيه أن هناك خيارَين لا ثالث لهما: النزعة الكونية الليبرالية أو عنف النزعات القومية والقبَلية واضطرابها، وحروب العرق والدين، والسلام العالمي أو عنف سياسات الهوية.
إن شعار ترامب «أمريكا أولًا» وتشديده على تأمين الحدود الجغرافية للأمة لامسا «وترًا» حساسًا لدى الوطنيين، وكانا ردَّ فعل مضادًّا لحلم بعالم بلا حدود يجوبه الناس جميعًا بحثًا عن الثروة والمتعة والتسلية، وللنزعة الكونية وسياسات الهوية - على حد سواء - المدعومة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري بنسب مختلفة.
تبدو سياسات الهوية القطبَ المعاكس للنزعة الكونية، أو استجابةً من مدركي خَوَاء الحلم الكوني والمتخلفين عن ركب العولمة الساعين إلى بديل منها عن طريق التظلم وإثارة انتهاكات فعلية أو انتحالها تاريخيًّا. أما الجانب الرجعي لسياسات الهوية، فهو متمثل في إعادة إحياء جماعات تفوُّق البيض الرجعية التي تميل إلى ترسيخ نفسها في خطاب الدم والتراب، وكذلك الأحزاب القومية المتطرفة، والنازية الجديدة، والعنف ضد المهاجرين في أوروبا، وقد ذهب معارضو ترامب إلى أن انتصاره قد غذّاها. ولا شك كذلك في أن النزعة القبَلية الجديدة المتسمة بكراهية الأجانب و»الآخر»، صارت تمثل تهديدًا حقيقيًّا. ومع ذلك، قد يكون من الممكن تخيُّل طريق ثالث يعيد اكتشاف الأهمية المعرفية للتراث.