الموسيقى الأندلسية

من زريـــاب إلى ابن بــاجـــة

يجمع الباحثون والدارسون من عرب وأجانب أن مرحـــلة الحكم الإسلامي في الأندلس (711 م 1492م) التي استغرقت زهاء ثمانية قرون، أعطت البشرية أنموذجا فريدا من نوعه لمجتمع تمكـــن أفراده من العيش في تفاهم وتسامح وتآلف وتآزر رغــــم اختــلاف انتماءاتهم العرقية والدينية، وذلك بفضل التسامح الإسلامي الـذي مكن مختلف الديانات والعرقيات من التعـــايش في ظــل العـــدالـة الإسلامية والمساهمة في بناء مجتمع متنوع، وجد فيه كل فرد فرصة للتعبير عن قدراته.



الفرق بين الشعر الملحون والزجل:

الزجل سليل الموشّح:
أمّا الأهمّ من ذلك في هذا المجال فهو وُجوب رفع اللّبس عند الباحثين بين الشعر العامي أو الملحون والأزجال الأندلسية، وهل هما شيء واحد أم كلاّ منهما فنّ قائم بذاته؟ في البداية يجب التعريج على ذكر تعريف، ولو موجز، لفنّ الأزجال ومتى ظهرت فابن خلدون يؤكّد أنّ ظهور الأزجال جاء على إثر تقشّي ظاهرة الموشحات قائلا: “ ... ولمّا شاع التّوشيح في أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وتصريح أجزائه نسجت العامّة من أهل الأمصار على منواله ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيه إعرابا واستحدثوا فيه فنّا سمّوه الزّجل والتزموا النّظر فيه لهذا العهد ( ق / 14 م ) فجاءوا فيه بالغرائب ... وأوّل من أبدع في هذه الطريقة الزّجلية أبو بكر بن قزمان (1587 م -1160 م ) وإن كانت قيلت قبله بالأندلس “ طبعا نحن لا نسلّم بهذا النّص لكن هناك من سبق وأكّد ذلك من القدامى كابن سعيد المغربي الذي أضاف إضافة نوعية في رأينا جعلتنا نخرج من الإشكال القائم عند الباحثين حول الفرق بين الشعر الملحون والأزجال؛ فالزّجل بحسب رأي ابن سعيد لا يكون زجلا إلاّ إذا تمّ نظمه وفق البنية التّوشيحية وبخلاف البنية التّوشيحية كان ما ينتج دون الفصيح يسمّى الشعر العامي أو الملحون، ويمكن أن يطلق عليه اسم الزّجل، وهذا استنادا إلى رأي ابن سعيد في كتابه “ المُغرب في حلّي المغرب “ حيث أورد نماذج زجلية للزجّال المشهورة ابن الحاج المعروف بمَدْغلّيس والتي صدّرها باسم الزّجل فكانت كلها ذات بنية توشيحية عمادها القفل والغصن أو المطلع والدّور ثمّ يختم النّماذج بقوله: “... وله شعر ملحون على طريقة العامة” وجاء بأبيات لقصيدة عامّية من الشعر الملحون مرصّعة المطلع على النّحو التالي:  

      صَحْبِتْ العُنْقْ المليحْ المْخلْخلْ
    حُبِّي فيك ثابت وديني مْخلخلْ

و من هذا نفهم أنّ الزّجل لا يسمّى زجلا إلاّ إذا كان موشّح البنية وما دون ذلك يسمّى الشعر الملحون أو العامي.
أمّا لغة الزجل فهي لغة خفيفة تنطبع في القلوب وتأنس بها المسامع، ولو لم تكن كذلك لما فشت لغة الزجل الأندلسي في المشرق والمغرب حتّى كادت أن تُوحِّد بين المشرق والمغرب في اللهجة المستعملة خصوصا في القرن السادس والسابع والثامن ميلادي، وليس أدلّ على ذلك من استعمال زجليات الشعر الصوفي للشاعر الشٌشتُري عند الطرقيين ومنهم الطريقة الشاذلية بالمشرق، فيقول ابن سعيد عن أزجال ابن قزمان: “ ... وأزجاله المدوّنة رأيتها في بغداد أكثر ممّا رأيتها بحواضر المغرب “كما يتغنّى النّاس في المغرب بزجلية ابن النّبيه المصري، ولا يفرقون بينها وبين الزّجليات الأندلسية والتي يقول فيها:

هاتِ يا ساقي الحُميّـا      إنّ نجــــم اللّيل غـرّبْ
  وصنعة:
        يا نديم اسمع نصيحهْ      لا تنم ما دمت صاحي

    ج- الطبع المزنّم:
   إنّ الطبع المزنّم هو منزلةٌ بين المنزلتين إن صحّ هذا التعبير، فلا هو بالموشح الخاص ولا هو بالزّجل التّام وإنّما استقى كيانه من الطرفين؛ فهو صنعة فنّية أظهرها للوجود ظُرفاء الأندلس في جلساتهم الفنية ويدخل في باب المُلح والهزل أكثر منه في باب الجدّ، يقول صفيّ الدّين الحلّي: ...و أطلقوا على كلّ ما أُعرب بعض ألفاظه من هذه الفنون لقب المزنّم ... فكأنّ هذا الفنّ قد استحقّ بالموشّح من طرف إعراب بعضه وبالزّجل من طرف لحن بعضه، وليس من أحدهما “ ولتوضيح هذا الكلام أكثر نقول إنّ التّزنيم في إصطلاح الوشّاحين والزجّالين هو استعمال اللغة الدّارجة في الموشّحات واستعمال الفُصحى في الزجل، وكلاهما معيبٌ ولكنّه أكثر عيبا في الموشحات وقد عرف عن ابن قزمان نظم الكثير من الموشحات، لكن أغلبها جاء مزنّما أي أدخل اللغة الدارجة أو العامية في بنية الموشحة، وهو أمر معيب، كما سبق ذكره.

مدرسة ابن باجة الأندلسية
أو المدرسة المنهجية العلمية:

سبق وأن أشرنا أنّ الغناء في الأندلس كان في بدايته على طريقة حُداة العرب حيث ذكر أحمد التّيفاشي (1184 م – 1253م ) في كتابه “متعة الإسماع في علم السّماع” : “ ...إنّ أهل الأندلس في القديم كان غناؤهم إمّا بطريقة النّصارى وإمّا بطريقة حُداة العرب ولم يكن عندهم قانون يعتمدون عليه إلى أن تأثّلت الدّولة الأموية وكان ذلك زمن الحَكم الرّبضي فوفد عليه من المشرق ومن إفريقية – المقصود تونس - من يُحسن غناء التّلاحين المدنية فأخذ النّاس عنهم إلى أن وفد الإمام المقدّم في هذا الشأن علي بن نافع الملقب بزرياب غُلام إسحاق الموصلي على الأمير عبد الرحمان الأوسط فجاء بما لم تعهده الأسماع واتخذت طريقته مسلكا وتُنسي غيرها إلى أن نشأ ابن باجة الإمام الأعظم واعتكف مدّة سنين مع جوار محسنات فهذّب الاستهلال والعمل ومزج غناء النّصارى بغناء المشرق، واقترح طريقة لا توجد إلاّ في الأندلس مال إليها طبع أهلها فرفضوا ما سواها”..
 نستخلص من هذا النص التاريخي الهام أن أهل الأندلس في أوائل العهد بفتحها أيّام حكم الولاة كانت تعرف نمطين من الغناء مستقلين أحدهما يجري على طريقة الأسبان وهو الذي كان شائعا بين سكان الأندلس الأصليين من القوط مثل الأغاني المعروفة آنذاك باسم: “ Las Seguidias “ و« Las Soleares  “ ومنها الأغاني التي ظلت محافظة على أسمائها العربية مثل: “ Las Zambras  “و “Las Haudas “و “ Las Aravias “ أي أغاني السحر والحُداة والأغاني العربية .
لقد شبّ ابن باجة في هذا المجتمع وقد تميزت المرحلة الأولى من حياته باشتغاله بالموسيقى وقرض الشعر وكانت له علاقات متينة مع عائلة حشداي اليهودية التي هي من أشراف سرقٌسطة الثغر الأعلى في الأندلس، وله علاقات أيضا مع عائلة شمعون اليهودية بقرطبة؛ فإسحاق بن شمعون القرطبي، يقول عنه صاحب المُسهب، على حدّ ما ذكر ابن سعيد، إنّه أحد عجائب الزمان في الاقتدار على الألحان وكان قد لازم ابن باجة وأحسن الغناء بلسانه وبيده ... وكان له نظم رائق كفاك منه:

     قم هات كأسك فالنّسيم قد اتّسق  
 والعود عن داعي المسرّة قد تنـــــطق
    وإليك من حثّ الكؤوس أزاهرا   
 في الخزّ يمرح كالأراكة في الورق
    والزّهر زهرٌ والرّياض سماؤها
   والفجر نهر والشقائق كالشّفــــــق

لقد ترعرع ابن باجة في هذا الوسط وترعرعت معه ميولاته الفنّية حتّى عدّ في الغرب الإسلامي فرابّيُّ الأندلس لذا نعته التّيفاشي في النصّ السابق “بالإمام الأعظم في الموسيقى “ ويعزّز ما سبق ذكره قول ابن سعيد عند الكلام عن وشّاحي العهد المرابطي بالعدوتين حين قال: “ ...و كان في عصرهم أبو بكر بن باجة صاحب التلاحين المشهورة “فكان بالّنّسبة للمغرب والأندلس أول من وضع المنهجية اللّحنية الأندلسية القحّة – وليس زرياب – الملائمة للذّوق الأندلسي ونقصد ذوق ساكنة الأندلس المتعددة الأعراق بحيث جمع بين الأجناس اللحنية الشرقية العربية من كلّ من مدرسة المدينة بالحجاز ومدرسة بغداد وكذلك الأجناس اللّحنية الإسبانية المسيحية التي بقيت متّبعة في الأندلس، ويحدّد لنا ابن سعيد الفترة التاريخية التي تمّ لابن باجة فيها الاتصال بالأمير المرابطي ابن تيفلويت الذي كان أميرا على غرناطة وجنوب الأندلس من سنة 500ه /1142 م.
 وقد امتدّ تأثير ابن باجة في الأندلس فنجد في العهد الموحّدي مؤلف كتاب “أدب الغناء للحسن بن أحمد الكاتب (625ه) الذي عاصر بالمغرب والأندلس الفنان البارع أبا الحسين بن المُحاسب المُرسي الذي كانت تُعْز ى إليه ألحان عصره والذي هذّب عدّة ألحان في الاستهلال كانت من تأليف ابن باجة، كما خلّف أخرى كانت من تأليفه، والحُسين هذا عاصر التّيفاشي الجزائري الذي ترك لنا كتاب “ متعة الأسماع في علم السماع “ والذي تكلم في الباب الحادي عشر عن قوانين الغناء الأندلسي جاء فيها:« ...الخُسرواني ما هو في طريق النشيد وهو المعروف عند أهل الأندلس بالاستهلال والعمل ويبدؤونه بنغمات ثقيلة شيئا بعد شيء ثم يخرجون عنها إلى نغمات خفيفة تحصل بين حالين فتثير من الطرب ما يرتاح له “ولعلّ المُشار إليه هنا هو ما أوضحه ابن باجة في رسالة “الألحان “، متحدثا عن النغم وعلاقته بدوران الأفلاك قائلا: “...إنّ ضارب العود إذا كان حاذقا فطنا وأراد أن يحرّك صاحب صفراء يهيجه ألحّ بالضّرب على الزير فإنّه للمناسبة التي بينهما في الخفّة واللّطافة يهيج له السرور وكذلك إذا أراد أن يحرّك صاحب الدّم ويهيج سروره ألحّ بالضّرب على المثّنى للمناسبة التي بينهما فلذلك يهيج الدموي المزاج ويبعث له السرور والجذل ويتحرّك له الفرح ووزنه ضعف وزن الزّير ...”، وهنا تتأكد دراية ابن باجة بأجزاء العود وتفاصيله فأسماء أوتار العود الأربعة هي على التوالي: الغليظ البم والمثلث والمثنّى والزير وهو أدقّها، أمّا بقية أجزاء العود فهي: الملاوي التي تُلوى بها الأوتار إذا سُويّت، الدّساتير التي توضع الأصابع عليها، ومشط العود الذي تشدّ عليه الأوتار، والإبريق وهو اسم عنق العود، والمضراب الذي ينقر به على العود.

   المدرسة الموسيقية الأندلسية الجزائرية:

يمكن ربط التواصل بين المدرسة الموسيقية الأندلسية بقيادة ابن باجة والمدرسة الأندلسية الجزائرية وذلك من خلال الهجرات المتتالية التي عرفتها أرض الأندلس تجاه المغرب العربي الإسلامي منذ سقوط طليطلة في يد النّصارى في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي إلى بدايات القرن السابع عشر الميلادي الذي شهد مرحلة طرد المورسكيين من أرض الأندلس، وكان نصيب الجزائر وافرا من حيث استقبالها لجالية أندلسية نوعية وكبيرة أيّام الإخوة بربروس وما تلا ذلك من صراع إسباني جزائري طيلة ثلاث مائة سنة صارت بموجبه الجزائر قبلة المُهجّرين ودار الجهاد في المغرب الإسلامي بدون منازع.
تؤكد المصادر التي عدنا إليها أنّ ابن باجة ومدرسته الموسيقية قد نالت إعجاب الأندلسيين وتعلقوا بها ومال إليها طبعهم ورفضوا ما سواها على حدّ تعبير التّيفاشي، كما عرفنا أنّ ابن باجة صار له تلاميذ كُثر من أبرزهم الملحّن الوزير أبي عامر بن الحمّارة الغرناطي وابن مُحاسب المُرسي صاحب التّلاحين على عهد الموحّدين والذي قال عنه التّيفاشي : “...وكان تلحينه يُسمع بالأندلس والمغرب من الشعر المتأخر فهو من صنعته”، ثمّ المنظر الكبير لعلم الموسيقى الأندلسي أحمد التّيفاشي سليل قرية تيفاش بضواحي سوق أهراس بالقطر الجزائري، ودون أن ننسى وريث موسيقى ابن باجة الشاعر الكبير أبو الصلت الدّاني، الذي استقرّ به المطاف بالقيروان، وبالتالي فمدرسة ابن باجة كان لها الامتداد الطبيعي والإشعاع الحقيقي الذي عمّ أرجاء المغرب الإسلامي حتّى مكّن لصنعته الفنية من التوغّل في أعماق الروح الجزائرية، وذلك بعد أن قضت الأقدار على ملك الأندلس وحضارته الخالدة بالزوال، وتقول بعض المصادر التاريخية إنّ الذي أدخل الألحان الموسيقية ثقيلها وخفيفها بحسب القواعد العلمية والأناشيد والموشحات الجديدة التي تنشد في الزوايا والأضرحة الجزائرية هو الشاعر ابن عمّار مفتي السادة المالكية في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي وقد حدث لهذه الموسيقى في الجزائر ما لم يكن منه بدّ فوقع من طول المدّة والممارسة تحريف في تراتيبها وأنظمتها المحكمة وتغلب عليها الدّخيل البلدي فامتزجت بطبيعة الحال بما غيّر طرقها الفنية وادخل عليها من فنون الصنع الموسيقي المحلية ما جعلها تفقد بعض قواعدها الأساسية، ذلك أنّ الموسيقى الأندلسية مبنية على قواعد علمية في تناسب أصواتها وارتباط بعضها ببعض وقد جعلت فيها الأصوات المطلقة والممتزجة مركبة من “ نوبات “ مرتّبة على قواعد الألحان بحيث يكون في المقال الأول الاستهلال ثمّ المقصود أو المصدّر ثمّ الخاتمة أو الانصراف وهي الجوانب التي عكف ابن باجة على تهذيبها كما ذكر التّيفاشي.
والنّوبة الأندلسية تبدأ “ بالتّوشية “، وهي ضربٌ من دون غناء ثمّ يجهر “بالمصدّر” ثقيلا ويليه “ البطايحي “أثقل منه في الغالب ويليهما الدّرج وهو أخفّ منهما ثمّ يأتي الانصراف خفيفا ثمّ الخلاص أخفّ وقد يزيدون على ذلك “ الانقلاب وهو يتبع دائما الاستخبار المناسب لصناعة النّوبة.
تقول المصادر إنّ هذه الموسيقى تتميز على وجه الخصوص باستعمال السلّم الموسيقي الطبيعي المعروف بالفيثاغوري بحيث تربط الطبوع الموسيقية باعتبارات فلكية وروحية واتباع طريقة مخصوصة في الغناء تسمى “ النّوبة “، وهي عبارة عن مجموعة متتابعة من القطع الغنائية والآلية المؤداة على طبع ( أو مقام ) واحد، وعلى إيقاعات مختلفة،  وبحركة تبدأ ببطء في مستهل النّوبة لتنتهي بسرعة كبيرة وكل نوبة تحمل اسم الطبع الذي لحنت عليه وتؤدّى في ساعة من ساعات النهار أو الليل المخصّصة لها وهي الساعة التي يعتقد أنّ تأثير ذلك الطبع يكون فيها أقوى في النّفوس من أيّ وقت آخر.

مـلاحظة: للبحث مراجع

الحلقة الثانية

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19546

العدد 19546

السبت 17 أوث 2024
العدد 19545

العدد 19545

الخميس 15 أوث 2024
العدد 19544

العدد 19544

الأربعاء 14 أوث 2024
العدد 19543

العدد 19543

الثلاثاء 13 أوث 2024